واعلم أن اطلاق اسم الروح على جبريل وعلى الانجيل وعلى الاسم الأعظم مجاز لأن الروح هو الريح المتردد في مخلوق الإنسان ومنافذه ومعلوم أن هذه الثلاثة ما كانت كذلك إلا أنه سمي كل واحد من هذه الثلاثة بالروح على سبيل التشبيه من حيث أن الروح كما أنه سبب لحياة الرجل، فكذلك جبريل عليه السلام سبب لحياة القلوب بالعلوم، والانجيل سبب لظهور الشرائع وحياتها، والاسم الأعظم سبب لأن يتوسل به إلى تحصيل الأغراض إلا أن المشابهة بين مسمى الروح وبين جبريل أتم لوجوه. أحدها : لأن جبريل عليه السلام مخلوق من هواء نوراً، لطيف فكانت المشابهة أتم، فكان إطلاق اسم الروح على جبريل أولى. وثانيها : أن هذه التسمية فيه أظهر منها فيما عداه، وثالثها : أن قوله تعالى :﴿وَأَيَّدْنَـاهُ بِرُوحِ الْقُدُسِ ﴾ يعني قويناه، والمراد من هذه التقوية الإعانة وإسناد الإعانة إلى جبريل عليه السلام حقيقة وإسنادها إلى الإنجيل والاسم الأعظم مجاز، فكان ذلك أولى، ورابعها : وهو أن اختصاص عيسى بجبريل عليهما السلام من آكد وجوه الاختصاص بحيث لم يكن لأحد من الأنبياء عليهم السلام مثل ذلك لأنه هو الذي بشر مريم / بولادتها وإنما ولد عيسى عليه السلام من نفخة جبريل عليه السلام وهو الذي رباه في جميع الأحوال وكان يسير معه حيث سار وكان معه حين صعد إلى السماء.
أما قوله تعالى :﴿أَفَكُلَّمَا جَآءَكُمْ رَسُولُا بِمَا لا تَهْوَى ا أَنفُسُكُمُ اسْتَكْبَرْتُمْ﴾ فهو نهاية الذم لهم، لأن اليهود من بني إسرائيل كانوا إذا أتاهم الرسول بخلاف ما يهوون كذبوه، وإن تهيأ لهم قتله قتلوه. وإنما كانوا كذلك لإرادتهم الرفعة في الدنيا وطلبهم لذاتها والترؤس على عامتهم وأخذ أموالهم بغير حق، وكانت الرسل تبطل عليهم ذلك فيكذبونهم لأجل ذلك ويوهمون عوامهم كونهم كاذبين ويحتجون في ذلك بالتحريف وسوء التأويل، ومنهم من كان يستكبر على الأنبياء استكبار إبليس على آدم.
أما قوله تعالى :﴿فَفَرِيقًا كَذَّبْتُمْ وَفَرِيقًا تَقْتُلُونَ﴾ فلقائل أن يقول : هلا قيل وفريقاً قتلتم ؟
وجوابه من وجهين : أحدهما : أن يراد الحال الماضية لأن الأمر فظيع فأريد استحضاره في النفوس وتصويره في القلوب. الثاني : أن يراد فريقاً تقتلونهم بعد لأنكم حاولتم قتل محمد صلى الله عليه وسلّم لولا أني أعصمه منكم ولذلك سحرتموه وسممتم له الشاة. وقال عليه السلام عند موته :"ما زالت أكلة خيبر تعاودني. فهذا أوان انقطاع أبهري" والله أعلم.
جزء : ٣ رقم الصفحة : ٥٩٤
٥٩٧
أما الغلف ففيه ثلاثة أوجه. أحدها : أنه جمع أغلف والأغلف هو ما في غلاف أي قلوبنا مغشاة بأغطية مانعة من وصول أثر دعوتك إليها، وثانيها : روى الأصم عن بعضهم أن قلوبهم غلف بالعلم ومملوءة بالحكمة فلا حاجة معها بهم إلى شرع محمد عليه السلام، وثالثها : غلف أي كالغلاف الخالي لا شيء فيه مما يدل على صحة قولك. أما المعتزلة فإنهم اختاروا الوجه الأول، ثم قالوا : هذه الآية تدل على أنه ليس في قلوب الكفار ما لا يمكنهم معه الإيمان، لا غلاف ولا كن ولا سد على ما يقوله المجبرة لأنه لو كان كذلك لكان هؤلاء اليهود صادقين في هذا القول، فكان لا يكذبهم الله بقوله :﴿بَل لَّعَنَهُمُ اللَّهُ بِكُفْرِهِمْ﴾ لأنه تعالى إنما يذم الكاذب المبطل لا الصادق المحق المعذور، قالوا : وهذا يدل على أن معنى قوله :﴿وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّن ذُكِّرَ بِـاَايَـاتِ رَبِّه فَأَعْرَضَ عَنْهَا وَنَسِىَ مَا﴾ (الكهف : ٥٧) وقوله :﴿إِنَّا جَعَلْنَا فِى أَعْنَـاقِهِمْ أَغْلَـالا﴾ وقوله :﴿وَجَعَلْنَا مِنا بَيْنِ أَيْدِيهِمْ سَدًّا﴾ (يس : ٨، ٩) ليس المراد كونهم ممنوعين من الإيمان، بل المراد إما منع الألطاف أو تشبيه حالهم في إصرارهم على الكفر بمنزلة المجبور على الكفر. قالوا : ونظير ذم الله تعالى اليهود على هذه المقالة ذمه تعالى الكافرين على مثل هذه المقالة وهو قوله تعالى :﴿وَقَالُوا قُلُوبُنَا فِى أَكِنَّةٍ مِمَّا تَدْعُونَآ إِلَيْهِ وَفِى ءَاذَانِنَا وَقْرٌ وَمِنا بَيْنِنَا وَبَيْنِكَ حِجَابٌ﴾ (فصلت : ٥) ولو كان الأمر على ما يقوله المجبرة لكان هئلاء القوم صادقين في ذلك، ولو كانوا / صادقين لما ذمهم بل كان الذي حكاه عنهم إظهاراً لعذرهم ومسقطاً للومهم.
واعلم أنا بينا في تفسير الغلف وجوهاً ثلاثة فلا يجب الجزم بواحد منها من غير دليل. سلمنا أن المراد منه ذلك الوجه لكن لم قلت إن الآية تدل على أن ذلك القول مذموم ؟