أما قوله تعالى :﴿بَل لَّعَنَهُمُ اللَّهُ بِكُفْرِهِمْ﴾ ففيه أجوبة. أحدها : هذا يدل على أنه تعالى لعنهم بسبب كفرهم، أما لم قلتم بأنه إنما لعنهم بسبب هذه المقالة فلعله تعالى حكى عنهم قولاً ثم بين أن من حالهم أنهم ملعونون بسبب كفرهم. وثانيها : المراد من قوله :﴿وَقَالُوا قُلُوبُنَا غُلْفُا ﴾ أنهم ذكروا ذلك على سبيل الاستفهام بمعنى الإنكار يعني ليست قلوبنا في أغلاف ولا في أغطية، بل قوية وخواطرنا منيرة ثم إنا بهذه الخواطر والأفهام تأملنا في دلائلك يا محمد، فلم يجد منها شيئاً قوياً. فلما ذكروا هذا التصلف الكاذب لا جرم لعنهم الله على كفرهم الحاصل بسبب هذا القول، وثالثها ؛ لعل قلوبهم ما كانت في الأغطية بل كانوا عالمين بصحة نبوة محمد صلى الله عليه وعلى آله وسلم كما قال تعالى :﴿يَعْرِفُونَه كَمَا يَعْرِفُونَ أَبْنَآءَهُمْ ﴾ (الأنعام : ٢٠) (البقرة : ١٤٦) إلا أنهم أنكروا تلك المعرفة وادعوا أن قلوبهم غلف وغير واقفة على ذلك فكان كفرهم كفر العناد فلا جرم لعنهم الله على ذلك الكفر.
جزء : ٣ رقم الصفحة : ٥٩٧
أما قوله تعالى :﴿فَقَلِيلا مَّا يُؤْمِنُونَ﴾ ففيه مسألتان :
المسألة الأولى : في تفسيره ثلاثة أوجه. أحدها : أن القليل صفة المؤمن، أي لا يؤمن منهم إلا القليل عن قتادة والأصم وأبي مسلم. وثانيها : أنه صفة الإيمان، أي لا يؤمنون إلا بقليل مما كلفوا به لأنهم كانوا يؤمنون بالله، إلا أنهم كانوا يكفرن بالرسل. وثالثها : معناه لا يؤمنون أصلاً لا قليلاً ولا كثيراً كما يقال : قليلاً ما يفعل بمعنى لا يفعل ألبتة. قال الكسائي : تقول العرب : مررنا بأرض قليلاً ما تنبت، يريدون ولا تنبت شيئاً. والوجه الأول أولى لأنه نظير قوله :﴿بَلْ طَبَعَ اللَّهُ عَلَيْهَا بِكُفْرِهِمْ فَلا يُؤْمِنُونَ إِلا قَلِيلا﴾ (النساء : ١٥٥) ولأن الجملة الأولى إذا كان المصرح فيها ذكر القوم فيجب أن يتناول الاستثناء بعض هؤلاء القوم.
المسألة الثانية : في انتصاب "قليلاً" وجوه. أحدها : فإيماناً قليلاً ما يؤمنون "وما" مزيدة وهو إيمانهم ببعض الكتاب، وثانيها : انتصب بنزع الخافض أي بقليل يؤمنون. وثالثها : فصاروا قليلاً ما يؤمنون.
جزء : ٣ رقم الصفحة : ٥٩٧
٥٩٨
اعلم أن هذا نوع من قبائح اليهود. أما قوله تعالى :﴿كِتَـابَ﴾ فقد اتفقوا على أن هذا الكتاب هو القرآن لأن قوله تعالى :﴿مُصَدِّقٌ لِّمَا مَعَهُمْ﴾ يدل على أن هذا الكتاب غير ما معهم وما ذاك إلا القرآن. أما قوله تعالى :﴿مُصَدِّقٌ لِّمَا مَعَهُمْ﴾ ففيه مسألتان :
المسألة الأولى : لا شبهة في أن القرآن مصدق لما معهم في أمر يتعلق بتكليفهم بصديق محمد صلى الله عليه وسلّم في النبوة واللائق بذلك هو كونه موافقاً لما معهم في دلالة نبوته إذ قد عرفوا أنه ليس بموافق لما معهم في سائر الشرائع وعرفنا أنه لم يرد الموافقة في باب أدلة القرآن، لأن جميع كتب الله كذلك ولما بطل الكل ثبت أن المراد موافقته لكتبهم فيما يختص بالنبوة وما يدل عليها من العلامات والنعوت والصفات.
المسألة الثانية : قرىء :﴿مُصَدِّقًا﴾ على الحال، فإن قيل : كيف جاز نصبها عن النكرة ؟
قلنا : إذا وصفت النكرة تخصصت فصح انتصاب الحال عنها وقد وصف ﴿كِتَـابَ﴾ بقوله :﴿مِّنْ عِندِ اللَّهِ﴾.
المسألة الثالثة : في جواب "لما" ثلاثة أوجه، أحدها : أنه محذوف كقوله تعالى :﴿وَلَوْ أَنَّ قُرْءَانًا سُيِّرَتْ بِهِ الْجِبَالُ﴾ (الرعد : ٣١) فإن جوابه محذوف وهو. لكان هذا القرآن، عن الأخفش والزجاج، وثانيها : أنه على التكرير لطول الكلام والجواب : كفروا به كقوله تعالى :﴿أَيَعِدُكُمْ أَنَّكُمْ﴾ إلى قوله تعالى :﴿أَنَّكُم مُّخْرَجُونَ﴾ (المؤمنون : ٣٥) عن المبرد، وثالثها : أن تكون الفاء جواباً للما الأولى ﴿كَفَرُوا بِه ﴾ جواباً للما الثانية وهو كقوله :﴿فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُم مِّنِّى هُدًى فَمَن تَبِعَ هُدَايَ فَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ﴾ (البقرة : ٣٨) (طه : ١٣٣) الآية عن الفراء.


الصفحة التالية
Icon