أما قوله تعالى :﴿وَكَانُوا مِن قَبْلُ يَسْتَفْتِحُونَ عَلَى الَّذِينَ كَفَرُوا ﴾ ففي سبب النزول وجوه. أحدها : أن اليهود من قبل مبعث محمد عليه السلام ونزول القرآن كانوا يستفتحون، أي يسألون الفتح والنصرة وكانوا يقولون : اللهم افتح علينا وانصرنا بالنبي الأمي. وثانيها ؛ كانوا يقولون لمخالفيهم عند القتال : هذا نبي قد أظل زمانه ينصرنا عليكم، عن ابن عباس. وثالثها : كانوا يسألون العرب عن مولده ويصفونه بأنه نبي من صفته كذا وكذا، ويتفحصون عنه على الذين كفروا أي على مشركي العرب، عن أبي مسلم. ورابعها : نزلت في بني قريظة والنضير، كانوا يستفتحون على الأوس والخزرج برسول الله قبل المبعث. عن ابن عباس وقتادة والسدي. وخامسها : نزلت في أحبار اليهود كانوا إذا قرؤوا وذكروا محمداً في التوراة وأنه مبعوث وأنه من العرب سألوا مشركي العرب عن تلك الصفات ليعلموا أنه هل ولد فيهم من يوافق حاله حال هذا المبعوث.
جزء : ٣ رقم الصفحة : ٥٩٨
أما قوله تعالى :﴿فَلَمَّا جَآءَهُم مَّا عَرَفُوا كَفَرُوا بِه ﴾ ففيه مسائل :
المسألة الأولى : تدل الآية على أنهم كانوا عارفين بنبوته وفيه سؤال : وهو أن التوراة / نقلت نقلاً متواتراً، فأما أن يقال : إنه حصل فيها نعت محمد صلى الله عليه وسلّم على سبيل التفصيل، أعني بيان أن الشخص الموصوف بالصورة الفلانية والسيرة الفلانية سيظره في السنة الفلانية في المكان الفلاني، أو لم يوجد هذا الوصف على هذا الوجه، فإن كان الأول كان القوم مضطرين إلى معرفة شهادة التوراة على صدق محمد عليه الصلاة والسلام/ فكيف يجوز على أهل التواتر إطباقهم على الكذب وإن لم يكن الوصف على هذه الصفة لم يلزم من الأوصاف المذكورة في التوراة كون محمد صلى الله عليه وسلّم رسولاً، فكيف قال الله تعالى :﴿فَلَمَّا جَآءَهُم مَّا عَرَفُوا كَفَرُوا بِه ﴾ ؟
والجواب : أن الوصف المذكور في التوراة كان وصفاً إجمالياً وأن محمداً صلى الله عليه وسلّم لم يعرفوا نبوته بمجرد تلك الأوصاف، بل بظهور المعجزات صارت تلك الأوصاف كالمؤكدة، فلهذا ذمهم الله تعالى على الإنكار.
المسألة الثانية : يحتمل أن يقال : كفروا به لوجوه. أحدها : أنهم كانوا يظنون أن المبعوث يكون من بني إسرائيل لكثرة من جاء من الأنبياء من بني إسرائيل وكانوا يرغبون الناس في دينه ويدعونهم إليه، فلما بعث الله تعالى محمداً من العرب من نسل إسماعيل صلوات الله عليه، عظم ذلك عليهم فأظهروا التكذيب وخالفوا طريقهم الأول. وثانيها : اعترافهم بنبوته كان يوجب عليهم زوال رياساتهم وأموالهم فأبوا وأصروا على الإنكار. وثالثها : لعلهم ظنوا أنه مبعوث إلى العرب خاصة فلا جرم كفروا به.
المسألة الثالثة : أنه تعالى كفرهم بعد ما بين كونهم عالمين بنبوته، وهذا يدل على أن الكفر ليس هو الجهل بالله تعالى فقط.
أما قوله تعالى :﴿فَلَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الْكَـافِرِينَ﴾ فالمراد الإبعاد من خيرات الآخرة، لأن المبعد من خيرات الدنيا لا يكون ملعوناً. فإن قيل : أليس أنه تعالى ذكر في الآية المتقدمة :﴿وَقُولُوا لِلنَّاسِ حُسْنًا﴾ (البقرة : ٨٣) وقال :﴿وَلا تَسُبُّوا الَّذِينَ يَدْعُونَ مِن دُونِ اللَّهِ فَيَسُبُّوا اللَّهَ عَدْوَا بِغَيْرِ عِلْمٍ ﴾ (الأنعام : ١٠٨) قلنا : العام قد يتطرق إليه التخصيص على أنا بينا فيما قبل أن لعن من يستحق اللعن من القول الحسن والله أعلم.
جزء : ٣ رقم الصفحة : ٥٩٨
٥٩٩
اعلم أن البحث عن حقيقة بئسما لا يحصل إلا في مسائل :
المسألة الأولى : أصل نعم وبئس نعم وبئس بفتح الأول وكسر الثاني كقولنا :"علم" إلا أن ما كان ثانيه حرف حلق وهو مكسور يجوز فيه أربع لغات، الأول : على الأصل أعني بفتح الأول وكسر الثاني. والثاني : اتباع الأول للثاني وهو أن يكون بكسر النون والعين، وكذا يقال : فخذ بكسر الفاء والخاء، وهم وإن كانوا يفرون من الجمع بين الكسرتين إلا أنهم جوزوه ههنا لكون الحرف الحلقي مستتبعاً لما يجاوره. الثالث : إسكان الحرف الحلقي المكسور وترك ما قبله على ما كان فيقال : نعم وبئس بفتح الأول وإسكان الثاني كما يقال : فخذ بفتح الفاء وإسكان الخاء. الرابع : أن يسكن الحرف الحلقي وتنقل كسرته إلى ما قبله فيقال : نعم بكسر النون وإسكان العين كما يقال : فخذ بكسر الفاء وإسكان الخاء.
واعلم أن هذا التغيير الأخير وإن كان في حد الجواز عند إطلاق هاتين الكلمتين إلا أنهم جعلوه لازماً لهما لخروجهما عما وضعت له الأفعال الماضية من الإخبار عن وجود المصدر في الزمان الماضي وصيرورتهما كلمتي مدح وذم ويراد بهما المبالغة في المدح والذم، ليدل هذا التغيير اللازم في اللفظ على التغيير عن الأصل في المعنى فيقولون : نعم الرجل زيد ولا يذكرونه على الأصل إلا في ضرورة الشعر كما أنشد المبرد :
ففداء لبني قيس على
ما أصاب الناس من شر وضر
ما أقلت قدماي إنهم
نعم الساعون في الأمر المبر


الصفحة التالية
Icon