المسألة الثانية : أنهما فعلان من نعم ينعم وبئس ويبأس والدليل عليه دخول التاء التي هي علامة التأنيث فيهما، فيقال : نعمت وبئست، والفراء يجعلهما بمنزلة الأسماء ويحتج بقول حسان ابن ثابت رضي الله عنه.
ألسنا بنعم الجار يؤلف بيته
من الناس ذا مال كثير ومعدما
وبما روي أن أعرابياً بشر بمولودة فقيل له : نعم المولود مولودتك، فقال : والله ما هي بنعم المولودة والبصريون يجيبون عنه بأن ذلك بطريق الحكاية.
المسألة الثالثة : اعلم أن "نعم وبئس" أصلان للصلاح والرداءة ويكون فاعلهما اسماً يستغرق الجنس إما مظهراً وإما مضمراً، والمظهر على وجهين، الأول : نحو قولك، نعم الرجل زيد لا تريد رجلاً دون الرجل وإنما تقصد الرجل على الإطلاق. والثاني : نحو قولك نعم غلام الرجل زيد، أما قوله :
جزء : ٣ رقم الصفحة : ٥٩٩
فنعم صاحب قوم لا سلاح لهم
وصاحب الركب عثمان بن عفانا
فنادر وقيل : كان ذلك لأجل أن قوله :"وصاحب الركب" قد يدل على المقصود إذ المراد واحد فإذا أتى في الركب بالألف واللام فكأنه قد أتى به في القوم، وأما المضمر فكقولك : نعم رجلاً زيد، الأصل : نعم الرجل رجلاً زيد ثم ترك ذكر الأول لأن النكرة المنصوبة تدل عليه / ورجلاً نصب على التمييز، مثله في قولك : عشرون رجلاً والمميز لا يكون إلا نكرة، ألا ترى أن أحداً لا يقول عشرون الدرهم ولو أدخلوا الألف واللام على هذا فقالوا : نعم الرجل بالنصب لكان نقضاً للغرض/ إذ لو كانوا يريدون الإتيان بالألف واللام لرفعوا وقالوا نعم الرجل وكفوا أنفسهم مؤنة الإضمار وإنما أضمروا الفاعل قصداً للاختصار، إذ كان "نعم رجلاً" يدل على الجنس الذي فضل عليه.
المسألة الرابعة : إذا قلت نعم الرجل زيد فهو على وجهين : أحدهما : أن يكون مبتدأ مؤخراً كأنه قيل : زيد نعم الرجل، أخرت زيداً والنية به التقديم، كما تقول : مررت به المسكين تريد المسكين مررت به، فأما الراجع إلى المبتدأ فإن الرجل لما كان شائعاً ينتظم فيه الجنس كان زيد داخلاً تحته فصار بمنزلة الذكر الذي يعود إليه، والوجه الآخر : أن يكون زيد في قولك : نعم الرجل زيد خبر مبتدأ محذوف كأنه لما قيل : نعم الرجل، قيل : من هذا الذي أثنى عليه ؟
فقيل : زيد أي هو زيد.
المسألة الخامسة : المخصوص بالمدح والذم لا يكون إلا من جنس المذكور بعد نعم وبئس كزيد من الرجال وإذا كان كذلك كان المضاف إلى القوم في قوله تعالى :﴿سَآءَ مَثَلا الْقَوْمُ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِـاَايَـاتِنَا﴾ (الأعراف : ١٧٧) محذوفاً وتقديره ساء مثلاً مثل القوم الذين كذبوا بآياتنا، وإذ قد لخصنا هذه المسائل فلنرجع إلى التفسير.
أما قوله تعالى :﴿بِئْسَمَا اشْتَرَوْا بِه ا أَنفُسَهُمْ أَن يَكْفُرُوا ﴾ ففيه مسألتان :
المسألة الأولى :"ما" نكرة منصوبة مفسرة لفاعل بئس بمعنى بئس الشيء شيئاً اشتروا به أنفسهم والمخصوص بالذم "أن يكفروا".
جزء : ٣ رقم الصفحة : ٥٩٩
المسألة الثانية : في الشراء ههنا قولان، أحدهما : أنه بمعنى البيع، وبيانه أنه تعالى لما مكن المكلف من الإيمان الذي يفضي به إلى الجنة والكفر الذي يؤدي به إلى النار صار اختياره لأحدهما على الآخر بمنزلة اختيار تملك سلعة على سلعة فإذا اختار الإيمان الذي فيه فوزه ونجاته. قيل : نعم ما اشترى، ولما كان الغرض بالبيع والشراء هو إبدال ملك يملك صلح أن يوصف كل واحد منهما بأنه بائع ومشتر لوقوع هذا المعنى من كل واحد منهما فصح تأويل قوله تعالى :﴿بِئْسَمَا اشْتَرَوْا بِه ا أَنفُسَهُمْ﴾ بأن المراد باعوا أنفسهم بكفرهم لأن الذي حصلوه على منافع أنفسهم لما كان هو الكفر صاروا بائعين أنفسهم بذلك، الوجه الثاني : وهو الأصح عندي أن المكلف إذا كان يخاف على نفسه من عقاب الله يأتي بأعمال يظن أنها تخلصه من العقاب فكأنه قد اشترى نفسه بتلك الأعمال، فهؤلاء اليهود لما اعتقدوا فيما أتوا به أنها تخلصهم من العقاب، وتوصلهم إلى الثواب فقد ظنوا أنهم اشتروا أنفسهم بها، فذمهم الله تعالى، وقال :﴿بِئْسَمَا اشْتَرَوْا بِه ا أَنفُسَهُمْ﴾ وهذا الوجه أقرب إلى المعنى واللفظ من الأول، ثم إنه تعالى بين تفسير ما اشتروا به أنفسهم بقوله / تعالى :﴿أَن يَكْفُرُوا بِمَآ أَنزَلَ اللَّهُ﴾ ولا شبهة أن المراد بذلك كفرهم بالقرآن لأن الخطاب في اليهود وكانوا مؤمنين بغيره، ثم بين الوجه الذي لأجله اختاروا هذا الكفر بما أنزل الله فقال :﴿بَغْيًا﴾ وأشار بذلك إلى غرضهم بالكفر كما يقال يعادي فلان فلاناً حسداً تنبيهاً بذلك على غرضه ولولا هذا القول لجوزنا أن يكفروا جهلاً لا بغياً.