المسألة الثانية : في هذا التمني قولان، أحدهما : قول ابن عباس إنهم يتحدوا بأن يدعو / الفريقان بالموت على أي فريق كان أكذب. والثاني : أن يقولوا ليتنا نموت وهذا الثاني أولى لأنه أقرب إلى موافقة اللفظ.
أما قوله تعالى :﴿وَلَن يَتَمَنَّوْهُ﴾ فخبر قاطع عن أن ذلك لا يقع في المستقبل وهذا إخبار عن الغيب لأن مع توفر الدواعي على تكذيب محمد صلى الله عليه وسلّم وسهولة الإتيان بهذه الكلمة، أخبر بأنهم لا يأتون بذلك فهذا إخبار جازم عن أمر قامت الأمارات على ضده فلا يمكن الوصول إليه إلا بالوحي.
وأما قوله تعالى :﴿أَبَدَا ﴾ فهو غيب آخر لأنه أخبر أن ذلك لا يوجد ولا في شيء من الأزمنة الآتية في المستقبل ولا شك أن الإخبار عن عدمه بالنسبة إلى عموم الأوقات فهما غيبان.
وأما قوله تعالى :﴿بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ ﴾ فبيان للعلة التي لها لا يتمنون (الموت) لأنهم إذا علموا سوء طريقتهم وكثرة ذنوبهم دعاهم ذلك إلى أن لا يتمنوا الموت.
جزء : ٣ رقم الصفحة : ٦٠٥
وأما قوله تعالى :﴿وَاللَّهُ عَلِيمُا بِالظَّـالِمِينَ﴾ فهو كالزجر والتهديد لأنه إذا كان عالماً بالسر والنجوى ولم يمكن إخفاء شيء عنه صار تصور المكلف لذلك من أعظم الصوارف عن المعاصي، وإنما ذكر الظالمين لأن كل كافر ظالم وليس كل ظالم كافراً فلما كان ذلك أعم كان أولى بالذكر فإن قيل : إنه تعالى قال ههنا :﴿وَلَن يَتَمَنَّوْهُ أَبَدَا ﴾ وقال في سورة الجمعة :﴿وَلا يَتَمَنَّونَه ا أَبَدَا ﴾ فلم ذكر ههنا (لن) وفي سورة الجمعة "لا" قلنا : إنهم في هذه السورة، ادعوا أن الدار الآخرة خالصة لهم من دون الناس وادعوا في سورة الجمعة أنهم أولياء لله من دون الناس والله تعالى أبطل هذين الأمرين بأنه لو كان كذلك لوجب أن يتمنوا الموت والدعوى الأولى أعظم من الثانية إذ السعادة القصوى هي الحصول في دار الثواب، وأما مرتبة الولاية فهي وإن كانت شريفة إلا أنها إنما تراد ليتوسل بها إلى الجنة فلما كانت الدعوة الأولى أعظم لا جرم بين تعالى فساد قولهم بلفظ :"لن" لأنه أقوى الألفاظ النافية ولما كانت الدعوى الثانية ليست في غاية العظمة لا جرم اكتفى في إبطالها بلفظ "لا" لأنه ليس في نهاية القوة في إفادة معنى النفي والله أعلم.
جزء : ٣ رقم الصفحة : ٦٠٥
٦٠٩
اعلم أنه سبحانه وتعالى لما أخبر عنهم في الآية المتقدمة أنهم لا يتمنون الموت أخبر في هذه الآية أنهم في غاية الحرص على الحياة لأن ههنا قسماً ثالثاً وهو أن يكون الإنسان بحيث لا يتمنى الموت ولا يتمنى الحياة فقال :﴿وَلَتَجِدَنَّهُمْ أَحْرَصَ النَّاسِ عَلَى حَيَواةٍ﴾.
أما قوله تعالى :﴿وَلَتَجِدَنَّهُمْ﴾ فهو من وجد بمعنى علم المتعدي إلى المفعولين في قوله : وجدت زيداً ذا حفاظ، ومفعولاه "هم" و"أحرص" وإنما قال :﴿عَلَى حَيَواةٍ﴾ بالتنكير لأنه حياة مخصوصة وهي الحياة المتطاولة ولذلك كانت القراءة بها أوقع من قراءة أبي "على الحياة" أما الواو في قوله :﴿وَمِنَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا ﴾ ففيه (ثلاثة أقول) :
أحدها : أنها واو عطف والمعنى أن اليهود أحرص الناس على حياة وأحرص من الذين أشركوا كقولك : هو أسخى الناس ومن حاتم. هذا قول الفراء والأصم. فإن قيل : ألم يدخل الذين أشركوا تحت الناس ؟
قلنا : بلى ولكنهم أفردوا بالذكر لأن حرصهم شديد وفيه توبيخ عظيم لأن الذين أشركوا ألا يؤمنون بالمعاد وما يعرفون إلا الحياة الدنيا فحرصهم عليها لا يستبعد لأنها جنتهم فإذا زاد عليهم في الحرص من له كتاب وهو مقر بالجزاء كان حقيقياً باعظم التوبيخ، فإن قيل : ولم زاد حرصهم على حرص المشركين ؟
قلنا : لأنهم علموا أنهم صائرون إلى النار لا محالة والمشركون لا يعلمون ذلك.
القول الثاني : أن هذه الواو واو استئناف وقد تم الكلام عند قوله :"على حياة" (و) تقديره ومن الذين أشركوا أناس يود أحدهم على حذف الموصوف كقوله :﴿وَمَا مِنَّآ إِلا لَه مَقَامٌ مَّعْلُومٌ﴾ (الصافات : ١٦٤).
القول الثالث : أن فيه تقديماً وتأخيراً وتقديره. ولتجدنهم وطائفة من الذين أشركوا أحرص الناس على حياة، ثم فسر هذه المحبة بقوله :﴿يَوَدُّ أَحَدُهُمْ لَوْ يُعَمَّرُ أَلْفَ سَنَةٍ﴾ وهو قول أبي مسلم، والقول الأول أولى لأنه إذا كانت القصة في شأن اليهود خاصة فالأليق بالظاهر أن يكون المراد : ولتجدن اليهود أحرص على الحياة من سائر الناس ومن الذين أشركوا ليكون ذلك أبلغ في إبطال دعواهم وفي إظهار كذبهم في قولهم. إن الدار الآخرة لنا لا لغيرنا والله أعلم.
جزء : ٣ رقم الصفحة : ٦٠٩


الصفحة التالية
Icon