المسألة الثانية : من الناس من استبعد أن يقول قوم من اليهود : إن جبريل عدوهم قالوا : لأنا نرى اليهود في زماننا هذا مطبقين على إنكار ذلك مصرين على أن أحداً من سلفهم لم يقل بذلك، واعلم أن هذا باطل لأن حكاية الله أصدق، ولأن جهلهم كان شديداً وهم الذين قالوا ؛ ﴿اجْعَل لَّنَآ إِلَـاهًا كَمَا لَهُمْ ءَالِهَةٌ ﴾ (الأعراف : ١٣٨).
المسألة الثالثة : قرأ ابن كثير :"جبريل" بفتح الجيم وكسر الراء من غير همز، وقرأ حمزة والكسائي وأبو بكر عن عاصم بفتح الجيم والراء مهموزاً والباقون بكسر الجيم والراء غير مهموز بوزن قنديل وفيه سبع لغات ثلاث منها ذكرناها، وجبرائيل على وزن جبراعل وجرائيل على وزن جبراعيل وجبرايل على وزن جبراعل وجبرين بالنون ومنع الصرف للتعريف والعجمة.
المسألة الرابعة : قال بعضهم : جبريل معناه عبد الله، فـ "جبر" عبد و"إيل" الله : وميكائيل عبد الله وهو قول ابن عباس وجماعة من أهل العلم، قال : أبو علي السوسي : هذا لا يصح لوجهين : أحدهما : أنه لا يعرف من أسماء الله "أيل" والثاني : أنه لو كان كذلك لكان آخر الاسم مجروراً.
جزء : ٣ رقم الصفحة : ٦١٠
أما قوله تعالى :﴿فَإِنَّه نَزَّلَه عَلَى قَلْبِكَ﴾ ففيه سؤالات :
السؤال الأول : الهاء في قوله تعالى :"فإنه" وفي قوله :"نزله" إلى ماذا يعود ؟
الجواب فيه قولان : أحدهما : أن الهاء الأولى تعود على جبريل والثانية : على القرآن وإن لم يجر له ذكر لأنه كالمعلوم كقوله :﴿مَا تَرَكَ عَلَى ظَهْرِهَا مِن دَآبَّةٍ﴾ (فاطر : ٤٥) يعني على الأرض وهذا قول ابن عباس وأكثر أهل العلم. أي إن كانت عداوتهم لأن جبريل ينزل القرآن فإنما ينزله بإذن الله. قال صاحب "الكشاف" : إضمار ما لم يسبق ذكره فيه فخامة لشأن صاحبه حيث يجعل لفرط شهرته كأنه يدل على نفسه ويكتفي عن اسمه الصريح بذكر شيء من صفاته، وثانيهما : المعنى فإن الله نزل جبريل عليه السلام لا أنه نزل نفسه.
السؤال الثاني : القرآن : إنما نزل على محمد صلى الله عليه وسلّم فما السبب في قوله نزله على قلبك ؟
الجواب : هذه المسألة ذكرناها في سورة الشعراء في قوله :﴿نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الامِينُ * عَلَى قَلْبِكَ﴾ (الشعراء : ١٩٣) وأكثر الأمة على أنه أنزل القرآن عليه لا على قلبه إلا أنه خص القلب بالذكر لأجل أن الذي نزل به ثبت في قلبه حفظاً حتى أداه إلى أمته، فلما كان سبب تمكنه من الأداء ثباته في قلبه حفظاً جاز أن يقال : نزله على قلبك وإن كان في الحقيقة نزله عليه لا على قلبه.
السؤال الثالث : كان حق الكلام أن يقال على قلبي، والجواب : جاءت على حكاية كلام الله كما تكلم به كأنه قيل : قل ما تكلمت به من قولي، من كان عدواً لجبريل فإنه نزله على قلبك.
السؤال الرابع : كيف استقام قوله :﴿فَإِنَّه نَزَّلَه ﴾ جزاء للشرط ؟
والجواب فيه وجهان : الأول : أنه سبحانه وتعالى بين أن هذه العداوة فاسدة لأنه ما أتى إلا أنه أمر بإنزال كتاب فيه الهداية والبشارة فأنزله، فهو من حيث إنه مأمور وجب أن يكون معذوراً، ومن حيث إنه أتى / بالهداية والبشارة يجب أن يكون مشكوراً فكيف تليق به العداوة، والثاني : أنه تعالى بين أن اليهود إن كانوا يعادونه فيحق لهم ذاك، لأنه نزل عليك الكتاب برهاناً على نبوتك، ومصداقاً لصدقك وهم يكرهون ذلك فكيف لا يبغضون من أكد عليهم الأمر الذي يكرهونه :
أما قوله تعالى :﴿بِإِذْنِ اللَّهِ﴾ فالأظهر بأمر الله وهو أولى من تفسيرة بالعلم لوجوه. أولها ؛ أن الإذن حقيقة في الأمر مجاز في العلم واللفظ واجب الحمل على حقيقته ما أمكن. وثانيها : أن إنزاله كان من الواجبات والوجوب مستفاد من الأمر لا من العلم. وثالثها : أن ذلك الإنزال إذا كان عن أمر لازم كان أوكد في الحجة.
جزء : ٣ رقم الصفحة : ٦١٠
أما قوله تعالى :﴿مُصَدِّقًا لِّمَا بَيْنَ يَدَيْهِ﴾ فمحمول على ما أجمع عليه أكثر المفسرين من أن المراد ما قبله من كتب الأنبياء ولا معنى لتخصيص كتاب، ومنهم من خصه بالتوراة وزعم أنه أشار إلى أن القرآن يوافق التوراة في الدلالة على نبوة محمد صلى الله عليه وسلّم. فإن قيل : أليس أن شرائع القرآن مخالفة لشرائع سائر الكتب، فلم صار بأن يكون مصدقاً لها لكونها متوافقة في الدلالة على التوحيد ونبوة محمد أولى بأن يكون غير مصدق لها ؟
قلنا : الشرائع التي تشتمل عليها سائر الكتب كانت مقدرة بتلك الأوقات ومنتهية في هذا الوقت بناء على أن النسخ بيان انتهاء مدة العبادة، وحينئذ لا يكون بين القرآن وبين سائر الكتب اختلاف في الشرائع.