أما قوله تعالى :﴿نَأْتِ بِخَيْرٍ مِّنْهَآ أَوْ مِثْلِهَآ ﴾ ففيه قولان. أحدهما : أنه الأخف، والثاني : أنه الأصلح، وهذا أولى لأنه تعالى يصرف المكلف على مصالحه لا على ما هو أخف على طباعه. فإن قيل : لو كان الثاني أصلح من الأول لكان الأول ناقص الصلاح فكيف أمر الله به ؟
قلنا : الأول أصلح من الثاني بالنسبة إلى الوقت الأول، والثاني بالعكس منه فزال السؤال. واعلم أن الناس استنبطوا من هذه الآية أكثر مسائل النسخ.
المسألة الأولى : قال قوم : لا يجوز نسخ الحكم إلا إلى بدل، واحتجوا بأن هذه الآية تدل على أنه تعالى إذا نسخ لا بد وأن يأتي بعده بما هو خير منه أو بما يكون مثله، وذلك صريح في وجوب البدل. والجواب : لم لا يجوز أن يقال : المراد أن نفي ذلك الحكم وإسقاط التبعد به خير من ثبوته في ذلك الوقت، ثم الذي يدل على وقوع النسخ لا إلى بدل أنه نسخ تقديم الصدقة بين يدي مناجاة الرسول صلى الله عليه وسلّم لا إلى البدل.
المسألة الثانية : قال قوم : لا يجوز نسخ الشيء إلى ما هو أثقل منه واحتجوا بأن قوله :﴿نَأْتِ بِخَيْرٍ مِّنْهَآ أَوْ مِثْلِهَآ ﴾ ينافي كونه أثقل، لأن الأثقل لا يكون خيراً منه ولا مثله. والجواب : لم لا يجوز أن يكون المراد بالخير ما يكون أكثر ثواباً في الآخرة، ثم إن الذي يدل على وقوعه أن الله سبحانه نسخ في حق الزناة الحبس في البيوت إلى الجلد والرجم، ونسخ صوم عاشوراء بصوم رمضان، وكانت الصلاة ركعتين عند قوم فنسخت بأربع في الحضر. إذا عرفت هذا فنقول : أما نسخ الشيء إلى الأثقل فقد وقع في الصور المذكورة، وأما نسخه إلى الأخف فكنسخ العدة من حول إلى أربعة أشهر وعشر، وكنسخ صلاة الليل إلى التخيير فيها. وأما نسخ الشيء إلى المثل فكالتحويل من بيت المقدس إلى الكعبة.
جزء : ٣ رقم الصفحة : ٦٣٦
المسألة الثالثة : قال الشافعي رضي الله عنه : الكتاب لا ينسخ بالسنة المتواترة واستدل عليه بهذه الآية من وجوه. أحدها : أنه تعالى أخبر أن ما ينسخه من الآيات يأت بخير منها وذلك يفيد أنه يأتي بما هو من جنسه، كما إذا قال الإنسان : ما آخذ منك من ثواب آتيك بخير منه، يفيد أنه يأتيه بثوب من جنسه خير منه، وإذا ثبت أنه لا بد وأن يكون من جنسه فجنس القرآن قرآن، وثانيها : أن قوله تعالى :﴿نَأْتِ بِخَيْرٍ مِّنْهَآ﴾ يفيد أنه هو المنفرد بالإتيان بذلك الخير، وذلك هو القرآن الذي هو كلام الله دون السنة التي يأتي بها الرسول عليه السلام، وثالثها : أن قوله :﴿نَأْتِ بِخَيْرٍ مِّنْهَآ﴾ يفيد أن المأتي به خير من الآية، والسنة لا تكون خيراً من القرآن، ورابعها : أنه قال :﴿أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ﴾ دل على أن الآتي بذلك الخير هو المختص بالقدرة على جميع الخيرات وذلك هو الله تعالى. والجواب عن الوجوه الأربعة بأسرها : أن قوله تعالى :﴿نَأْتِ بِخَيْرٍ مِّنْهَآ﴾ ليس فيه أن ذلك الخير يجب أن يكون ناسخاً، بل لا يمتنع أن يكون ذلك الخير شيئاً مغايراً للناسخ يحصل بعد حصول النسخ/ والذي يدل على تحقيق هذا الاحتمال أن هذه الآية صريحة في أن الإتيان بذلك الخير مرتب على نسخ الآية الأولى، فلو كان نسخ تلك الآية مرتباً على الإتيان بهذا الخير لزم الدور وهو باطل، ثم احتج الجمهور على وقوع نسخ الكتاب بالسنة لأن آية الوصية للأقربين منسوخة بقوله عليه الصلاة والسلام :"ألا لا وصية لوارث" وبأن آية الجلد صارت منسوخة بخبر الرجم. قال الشافعي رضي الله عنه : أما الأول : فضعيف لأن كون الميراث حقاً للوارث يمنع من صرفه إلى الوصية، فثبت أن آية الميراث مانعة من الوصية، وأما الثاني :/ فضعيف أيضاً لأن عمر رضي الله عنه روى أن قوله :"الشيخ والشيخة إذا زنيا فارجموهما ألبتة" كان قرآناً فلعل النسخ إنما وقع به، وتمام الكلام فيه مذكور في أصول الفقه والله أعلم.
أما قوله تعالى :﴿أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ﴾ فتنبيه للنبي صلى الله عليه وسلّم وغيره على قدرته تعالى على تصريف المكلف تحت مشيئته وحكمه وحكمته، وأنه لا دافع لما أراد ولا مانع لما اختار.
جزء : ٣ رقم الصفحة : ٦٣٦


الصفحة التالية
Icon