﴿هُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوكُمْ عَنِ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ﴾ (الفتح : ٢٥) وبقوله :﴿وَمَا لَهُمْ أَلا يُعَذِّبَهُمُ اللَّهُ وَهُمْ يَصُدُّونَ عَنِ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ﴾ (الأنفال : ٣٤) وحمل قوله :﴿إِلا خَآئِفِينَ ﴾ بما يعلى الله من يده، ويظهر من كلمته، كما قال في المنافقين :﴿لَّـاـاِن لَّمْ يَنتَهِ الْمُنَـافِقُونَ وَالَّذِينَ فِى قُلُوبِهِم مَّرَضٌ وَالْمُرْجِفُونَ فِى الْمَدِينَةِ لَنُغْرِيَنَّكَ بِهِمْ ثُمَّ لا يُجَاوِرُونَكَ فِيهَآ إِلا قَلِيلا * مَّلْعُونِينَا أَيْنَمَا ثُقِفُوا أُخِذُوا وَقُتِّلُوا تَقْتِيلا﴾ (الأحزاب : ٦٠ ـ ٦١) وعندي فيه وجه خامس وهو أقرب إلى رعاية النظم : وهو أن يقال : أنه لما حولت القبلة إلى الكعبة شق ذلك على اليهود فكانوا يمنعون الناس عن الصلاة عند توجههم إلى الكعبة، ولعلهم سعوا أيضاً في تخريب الكعبة بأن حملوا بعض الكفار على تخريبها، وسعوا أيضاً في تخريب مسجد الرسول صلى الله عليه وسلّم لئلا يصلوا فيه متوجهين إلى القبلة، فعابهم الله بذلك وبين سوء طريقتهم فيه، وهذا التأويل أولى مما قبله، وذلك لأن الله تعالى لم يذكر في الآيات السابقة على هذه الآية إلا قبائح أفعال اليهود / والنصارى، وذكر أيضاً بعدها قبائح أفعالهم فكيف يليق بهذه الآية الواحدة أن يكون المراد منها قبائح أفعال المشركين في صدهم الرسول عن المسجد الحرام/ وأما حمل الآية على سعي النصارى في تخريب بيت المقدس فضعيف أيضاً على ما شرحه أبو بكر الرازي، فلم يبق إلا ما قلناه.
المسألة الثانية : في كيفية اتصال هذه الآية بما قبلها وجوه : فأما من حملها على النصارى وخراب بيت المقدس قال : تتصل بما قبلها من حيث أن النصارى ادعوا أنهم من أهل الجنة فقط، فقيل لهم : كيف تكونون كذلك مع أن معاملتكم في تخريب المساجد والسعي في خرابها هكذا، وأما من حمله على المسجد الحرام وسائر المساجد قال : جرى ذكر مشركي العرب في قوله :﴿كَذَالِكَ قَالَ الَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ مِثْلَ قَوْلِهِمْ ﴾ (البقرة : ١١٣) وقيل : جرى ذكر جميع الكفار وذمهم، فمرة وجه الذم إلى اليهود والنصارى ومرة إلى المشركين.
المسألة الثالثة : قوله :﴿مَسَـاجِدَ اللَّهِ﴾ عموم فمنهم من قال : المراد به كل المساجد، ومنهم من حمله على ما ذكرناه من المسجد الحرام وغيره من مساجد مكة، وقالوا : قد كان لأبي بكر رضي الله عنه مسجد بمكة يدعو الله فيه، فخربوه قبل الهجرة، ومنهم من حمله على المسجد الحرام فقط وهو قول أبي مسلم حيث فسر المنع بصد الرسول عن المسجد الحرام عام الحديبية، فإن قيل : كيف يجوز حمل لفظ المساجد على مسجد واحد ؟
قلنا : فيه وجوه. أحدها : هذا كمن يقول لمن آذى صالحاً واحداً : ومن أظلم ممن آذى الصالحين. وثانيها : أن المسجد موضع السجود فالمسجد الحرام لا يكون في الحقيقة مسجداً واحداً بل مساجد.
جزء : ٤ رقم الصفحة : ١٠
المسألة الرابعة : قوله :﴿أَن يُذْكَرَ فِيهَا اسْمُه ﴾ في محل النصب واختلفوا في العامل فيه على أقوال. الأول : أنه ثاني مفعولي منع لأنك تقول : منعته كذا، ومثله :﴿وَمَا مَنَعَ النَّاسَ أَن يُؤْمِنُوا ﴾. الثاني : قال الأخفش : يجوز أن يكون على حذف (من) كأنه قيل : منع مساجد الله من أن يذكر فيها اسمه. الثالث : أن يكون على البدل من مساجد الله. الرابع : قال الزجاج : يجوز أن يكون على معنى كراهة أن يذكر فيها اسمه، والعامل فيه (منع).
المسألة الخامسة : السعي في تخريب المسجد قد يكون لوجهين. أحدهما : منع المصلين والمتعبدين والمتعهدين له من دخوله فيكون ذلك تخريباً. والثاني : بالهدم والتخريب وليس لأحد أن يقول : كيف يصح أن يتأول على بيت الله الحرام ولم يظهر فيه التخريب لأن منع الناس من إقامة شعار العبادة فيه يكون تخريباً له، وقيل : إن أبا بكر رضي الله عنه كان له موضع صلاة فخربته قريش لما هاجر.
المسألة السادسة : ظاهر الآية يقتضي أن هذا الفعل أعظم أنواع الظلم وفيه إشكال لأن الشرك ظلم على ما قال تعالى :﴿إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ﴾ (لقمان : ١٣) مع أن الشرك أعظم من هذا الفعل، وكذا الزنا وقتل النفس أعظم من هذا الفعل، والجواب عنه : أقصى ما في الباب أنه عام دخله / التخصيص فلا يقدح فيه.
أما قوله تعالى :﴿أُوالَـا ئِكَ مَا كَانَ لَهُمْ أَن يَدْخُلُوهَآ إِلا خَآئِفِينَ ﴾ فاعلم أن في الآية مسائل :
جزء : ٤ رقم الصفحة : ١٠


الصفحة التالية
Icon