المسألة الأولى : ظاهر الكلام أن الذين آمنوا وسعوا في تخريب المسجد هم الذين يحرم عليهم دخوله إلا خائفين، وأما من يجعله عاماً في الكل فذكروا في تفسير هذا الخوف وجوهاً. أحدها : ما كان ينبغي لهم أن يدخلوا مساجد الله إلا خائفين على حال الهيبة وارتعاد الفرائص من المؤمنين أن يبطشوا بهم فضلاً أن يستولوا عليهم ويمنعوا المؤمنين منها، والمعنى ما كان الحق والواجب إلا ذلك لولا ظلم الكفرة وعتوهم. وثانيها : أن هذا بشارة من الله للمسلمين بأنه سيظهرهم على المسجد الحرام وعلى سائر المساجد، وأنه يذل المشركين لهم حتى لايدخل المسجد الحرام واحد منهم إلا خائفاً يخاف أن يؤخذ فيعاقب، أو يقتل أن لم يسلم/ وقد أنجز الله صدق هذا الوعد فمنعهم من دخول المسجد الحرام، ونادى فيهم عام حج أبو بكر رضي الله عنه : ألا لا يحجن بعد العام مشرك، وأمر النبي عليه الصلاة والسلام بإخراج اليهود من جزيرة العرب، فحج من العام الثاني ظاهراً على المساجد لا يجترىء أحد من المشركين أن يحج ويدخل المسجد الحرام، وهذا هو تفسير أبي مسلم في حمل المنع من المساجد على صدهم رسول الله صلى الله عليه وسلّم عن المسجد الحرام عام الحديبية ويحمل هذا الخوف على ظهور أمر الرسول صلى الله عليه وسلّم وغلبته لهم بحيث يصيرون خائفين منه ومن أمته. وثالثها : أن يحمل هذا الخوف على ما يلحقهم من الصغار والذل بالجزية والإذلال. ورابعها : أنه يحرم عليهم دخول المسجد الحرام إلا في أمر يتضمن الخوف نحو أن يدخلوا للمخاصمة والمحاكمة والمحاجة، لأن كل ذلك يتضمن الخوف والدليل عليه قوله تعالى :﴿مَا كَانَ لِلْمُشْرِكِينَ أَن يَعْمُرُوا مَسَـاجِدَ اللَّهِ شَـاهِدِينَ عَلَى ا أَنفُسِهِم بِالْكُفْرِ ﴾ (التوبة : ١٧). وخامسها : قال قتادة والسدي : قوله :﴿إِلا خَآئِفِينَ ﴾ بمعنى أن النصارى لا يدخلون بيت المقدس إلا خائفين، ولا يوجد فيه نصراني إلا أوجع ضرباً وهذا التأويل مردود، لأن بيت المقدس بقي أكثر من مائة سنة في أيدي النصارى بحيث لم يتمكن أحد من المسلمين من الدخول فيه إلا خائفاً، إلى أن استخلصه الملك صلاح الدين رحمه الله في زماننا. وسادسها : أن قوله :﴿مَا كَانَ لَهُمْ أَن يَدْخُلُوهَآ إِلا خَآئِفِينَ ﴾ وإن كان لفظه لفظ الخبر لكن المراد منه النهي عن تمكينهم من الدخول، والتخلية بينهم وبينه كقوله :﴿وَمَا كَانَ لَكُمْ أَن تُؤْذُوا رَسُولَ اللَّهِ﴾ (الأحزاب : ٥٣).
جزء : ٤ رقم الصفحة : ١٠
أما قوله تعالى :﴿لَهُمْ فِى الدُّنْيَا خِزْىٌ﴾ فقد اختلفوا في الخزي، فقال بعضهم : ما يلحقهم من الذل بمنعهم من المساجد، وقال آخرون بالجزية في حق أهل الذمة وبالقتل في حق أهل الحرب، واعلم أن كل ذلك محتمل فإن الخزي لا يكون إلا ما يجري مجرى العقوبة من الهوان والإذلال فكل ما هذه صفته يدخل تحته وذلك ردع من الله تعالى عن ثباتهم على الكفر لأن الخزي الحاضر يصرف عن التمسك بما يوجبه ويقتضيه، وأما العذاب العظيم فقد وصفه الله تعالى بما جرى مجرى النهاية / في المبالغة، لأن الذين قدم ذكرهم وصفهم بأعظم الظلم، فبين أنهم يستحقون العقاب العظيم، وفي الآية مسألتان :