﴿بَل لَّه مَا فِي السَّمَـاوَاتِ وَالارْضِ ﴾ أي له كل ما سواه على سبيل الملك والخلق والإيجاد والإبداع. والثاني : أن هذا الذي أضيف إليه بأنه ولده إما أن يكون قديماً أزلياً أو محدثاً، فإن كان أزلياً لم يكن حكمنا بجعل أحدهما ولداً والآخر والداً أولى من العكس، فيكون ذلك الحكم حكماً مجرداً من غير دليل / وإن كان الولد حادثاً كان مخلوقاً لذلك القديم وعبداً له فلا يكون ولداً له. والثالث : أن الولد لا بد وأن يكون من جنس الوالد، فلو فرضنا له ولداً لكان مشاركاً له من بعض الوجوه، وممتازاً عنه من وجه آخر، وذلك يقتضي كون كل واحد منهما مركباً ومحدثاً وذلك محال، فإذن المجانسة ممتنعة فالولدية ممتنعة. الرابع : أن الولد إنما يتخذ للحاجة إليه في الكبر ورجاء الانتفاع بمعونته حال عجز الأب عن أمور نفسه، فعلى هذا إيجاد الولد إنما يصح على من يصح عليه الفقر والعجز والحاجة، فإذا كان كل ذلك محال كان إيجاد الولد عليه سبحانه وتعالى محالاً، واعلم أنه تعالى حكى في مواضع كثيرة عن هؤلاء الذين يضيفون إليه الأولاد قولهم، واحتج عليهم بهذه الحجة وهي أن كل من في السموات والأرض عبد له، وبأنه إذا قضى أمراً فإنما يقول له كن فيكون، وقال في مريم :﴿ذَالِكَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَا قَوْلَ الْحَقِّ الَّذِى فِيهِ يَمْتَرُونَ * مَا كَانَ لِلَّهِ أَن يَتَّخِذَ مِن وَلَدٍا سُبْحَـانَه ا إِذَا قَضَى ا أَمْرًا فَإِنَّمَا يَقُولُ لَه كُن فَيَكُونُ﴾ (مريم : ٣٤، ٣٥) وقال أيضاً في آخر هذه السورة :﴿وَقَالُوا اتَّخَذَ الرَّحْمَـانُ وَلَدًا﴾ (مريم : ٨٨ ـ ٩٣) فإن قيل : ما الحكمة في أنه تعالى استدل في هذه الآية بكونه مالكاً لما في السموات والأرض، وفي سورة مريم بكونه مالكاً لمن في السموات والأرض على ما قال :﴿إِن كُلُّ مَن فِى السَّمَـاوَاتِ وَالارْضِ إِلا ءَاتِى الرَّحْمَـن ِ عَبْدًا﴾ قلنا : قوله تعالى في هذه السورة :﴿بَل لَّه مَا فِي السَّمَـاوَاتِ وَالارْضِ ﴾ أتم، لأن كلمة (ما) تتناول جميع الأشياء، وأما قوله تعالى :﴿كُلٌّ لَّه قَـانِتُونَ﴾ (الروم : ٢٦) ففيه مسائل :
جزء : ٤ رقم الصفحة : ٢٢
المسألة الأولى : القنوت : أصله الدوام، ثم يستعمل على أربعة أوجه : الطاعة، كقوله تعالى :﴿الْعَـالَمِينَ * يَـامَرْيَمُ اقْنُتِى لِرَبِّكِ﴾ (آل عمران : ٤٣) وطول القيام، كقوله عليه السلام لما سئل : أي الصلاة أفضل ؟
قال :"طول القنوت" وبمعنى السكوت، كما قال زيد بن أرقم : كنا نتكلم في الصلاة حتى نزل قوله تعالى :﴿وَقُومُوا لِلَّهِ قَـانِتِينَ﴾ (البقرة : ٢٣٨) فأمسكنا عن الكلام، ويكون بمعنى الدوام، إذا عرفت هذا فنقول : قال بعض المفسرين :﴿كُلٌّ لَّه قَـانِتُونَ﴾ أي كل ما في السموات والأرض قانتون مطيعون، والتنوين في كل عوض عن المضاف إليه وهو قول مجاهد وابن عباس، فقيل لهؤلاء الكفار : ليسوا مطيعين، فعند هذا قال آخرون : المعنى أنهم يطيعون يوم القيامة، وهو قول السدي، فقيل لهؤلاء : هذه صفة المكلفين، وقوله :﴿لَّه مَا فِي السَّمَـاوَاتِ﴾ يتناول من لا يكون مكلفاً فعند هذا فسروا القنوت بوجوه أخر. الأول : بكونها شاهدة على وجود الخالق سبحانه بما فيها من آثار الصنعة وأمارات الحدوث والدلالة على الربوبية. الثاني : كون جميعها في ملكه وقهره يتصرف فيها كيف يشاء، وهو قول أبي مسلم، وعلى هذين الوجهين الآية عامة. الثالث : أراد به الملائكة وعزيزاً والمسيح، أي كل من هؤلاء الذين حكموا عليهم بالولد أنهم قانتون له، يحكى عن علي بن أبي طالب قال لبعض النصارى : لولا تمرد عيسى عن عبادة الله لصرت على دينه، فقال النصراني : كيف يجوز أن ينسب ذلك إلى / عيسى مع جده في طاعة الله، فقال علي رضي الله عنه : فإن كان عيسى إلهاً فالإله كيف يعبد غيره إنما العبد هو الذي يليق به العبادة/ فانقطع النصراني.
المسألة الثانية : لما كان القنوت في أصل اللغة عبارة عن الدوام كان معنى الآية أن دوام الممكنات وبقاءها به سبحانه ولأجله وهذا يقتضي أن العالم حال بقائه واستمراره محتاج إليه سبحانه وتعالى، فثبت أن الممكن يقتضي أن لا تنقطع حاجته عن المؤثر لا حال حدوثه ولا حال بقائه.
المسألة الثالثة : يقال كيف جاء بما الذي لغير أولى العلم مع قوله :﴿قَـانِتُونَ﴾ جوابه : كأنه جاء بما دون من تحقيراً لشأنهم.
أما قوله تعالى :﴿بَدِيعُ السَّمَـاوَاتِ وَالارْضِ ﴾ ففيه مسائل :
المسألة الأولى : البديع والمبدع بمعنى واحد. قال القفال : وهو مثل أليم بمعنى مؤلم وحكيم بمعنى محكم، غير أن في بديع مبالغة للعدول فيه وأنه يدل على استحقاق الصفة في غير حال الفعل على تقدير أن من شأنه الإبداع فهو في ذلك بمنزلة : سامع وسميع وقد يجيء بديع بمعنى مبدع، والإبداع الإنشاء ونقيض الإبداع الاختراع على مثال ولهذا السبب فإن الناس يسمون من قال أو عمل ما لم يكن قبله مبتدعاً.
جزء : ٤ رقم الصفحة : ٢٢