المسألة الثانية : اعلم أن هذا من تمام الكلام الأول، لأنه تعالى قال :﴿بَل لَّه مَا فِي السَّمَـاوَاتِ وَالارْضِ ﴾ فبين بذلك كونه مالكاً لما في السموات والأرض ثم بين بعده أنه المالك أيضاً للسموات والأرض، ثم أنه تعالى بين أنه كيف يبدع الشيء فقال :﴿وَإِذَا قَضَى ا أَمْرًا فَإِنَّمَا يَقُولُ لَه كُن فَيَكُونُ﴾ وفيه مسائل :
المسألة الأولى : قال بعض الأدباء : القضاء مصدر في الأصل سمي به ولهذا جمع على أقضية كغطاء وأغطية، وفي معناه القضية، وجمعها القضايا ووزنه فعال من تركيب "ق ض ى" وأصله "قضاي" إلا أن الياء لما وقعت طرفاً بعد الألف الزائدة اعتلت فقلبت ألفاً، ثم لما لاقت هي ألف فعال قلبت همزة لامتناع التقاء الألفين لفظاً، ومن نظائره المضاء والأتاء، من مضيت وأتيت والسقاء والشفاء، من سقيت وشفيت، والدليل على إصالة الياء دون الهمزة ثباتها في أكثر تصرفات الكلمة تقول : قضيت وقضينا، وقضيت إلى قضيتن، وقضيا وقضين، وهما يقضيان، وهي وأنت تقضي، والمرأتان وأنتما تقضيان، وهن يقضين، وأما أنت تقضين، فالياء فيه ضمير المخاطبة، وأما معناه فالأصل الذي يدل تركيبه عليه هو معنى القطع، من ذلك قولهم ؛ قضى القاضي لفلان على فلان بكذا قضاء إذا حكم، لأنه فصل للدعوى، ولهذا قيل : حاكم فيصل إذا كان قاطعاً للخصومات وحكى ابن الأنباري عن أهل اللغة أنهم قالوا : القاضي معناه القاطع للأمور المحكم لها، وقولهم انقضى الشيء إذا تم وانقطع، وقولهم : قضى حاجته، معناه قطعها عن المحتاج ودفعها عنه وقضى دينه إذا أداه إليه كأنه قطع التقاضي والاقتضاء عن نفسه أو انقطع كل منهما عن صاحبه، / وقولهم : قضى الأمر، إذا أتمه وأحكمه، ومنه قوله تعالى :﴿فَقَضَـاـاهُنَّ سَبْعَ سَمَـاوَاتٍ﴾ (فصلت : ١٢) وهو من هذا لأن في إتمام العمل قطعاً له وفراغاً منه، ومنه : درع قضاء من قضاها إذا أحكمها وأتم صنعها، وأما قولهم ؛ قضى المريض وقضى نحبه إذا مات، وقضى عليه : قتله فمجاز مما ذكر والجامع بينهما ظاهر، وأما تقضي البازي فليس من هذا التركيب، ومما يعضد ذلك دلالة ما استعمل من تقليب ترتيب هذا التركيب عليه وهو القيض والضيق، أما الأول فيقال : قاضه فانقاض، أي شقه فانشق، ومنه قيض البيض لما انفلق من قشره الأعلى، وانقاض الحائط إذا انهدم من غير هدم، والقطع والشق والفلق والهدم متقاربة، وأما الضيق وما يشتق منه فدلالته على معنى القطع بينة، وذلك أن الشيء إذا قطع ضاق أو على العكس، ومما يؤكد ذلك أن ما يقرب من هذا التركيب يدل أيضاً على معنى القطع، فأولها : قضيه إذا قطعه، ومنه القضبة المرطبة/ لأنها تقضب أي تقطع تسمية بالمصدر، والقضيب : الغصن، فعيل بمعنى مفعول، والمقضب ما يقضب به كالمنجل. وثانيها ؛ القضم وهو الأكل بأطراف الأسنان، لأن فيه قطعاً للمأكول، وسيف قضيم : في طرفه تكسر وتفلل. وثالثها : القضف وهو الدقة، يقال رجل قضيف، أي : نحيف، لأن القلة من مسببات القطع. ورابعها : القضأة فعلة وهي الفساد، يقال قضئت القربة إذا عفيت وفسدت وفي حسبه قضأة أي عيب، وهذا كله من أسباب القطع أو مسبباته فهذا هو الكلام في مفهومه الأصلي بحسب اللغة.
جزء : ٤ رقم الصفحة : ٢٢
المسألة الثانية : في محامل لفظ القضاء في القرآن قالوا : أنه يستعمل على وجوه. أحدها : بمعنى الخلق، قوله تعالى :﴿فَقَضَـاـاهُنَّ سَبْعَ سَمَـاوَاتٍ﴾ يعني خلقهن. وثانيها : بمعنى الأمر قال تعالى :﴿وَقَضَى رَبُّكَ أَلا تَعْبُدُوا إِلا إِيَّاهُ﴾ (الإسراء : ٢٣). وثالثها : بمعنى الحكم، ولهذا يقال للحاكم : القاضي. ورابعاً : بمعنى الإخبار، قال تعالى :﴿وَقَضَيْنَآ إِلَى بَنِى إسرائيل فِى الْكِتَـابِ﴾ (الإسراء : ٤) أي أخبرناهم، وهذا يأتي مقروناً بإلى. وخامسها : أن يأتي بمعنى الفراغ من الشيء قال تعالى :﴿فَلَمَّا قُضِىَ وَلَّوْا إِلَى قَوْمِهِم مُّنذِرِينَ﴾ (الأحقاف : ٢٩) يعني لما فرغ من ذلك، وقال تعالى :﴿وَقُضِىَ الامْرُ وَاسْتَوَتْ عَلَى الْجُودِىِّ ﴾ (هود : ٤٤) يعني فرغ من إهلاك الكفار وقال :﴿لْيَقْضُوا تَفَثَهُمْ﴾ (الحج : ٢٩) بمعنى ليفرغوا منه، إذا عرفت هذا فنقول : قوله :﴿إِذَا قَضَى ا أَمْرًا﴾ (آل عمران : ٤٧) قيل : إذا خلق شيئاً، وقيل : حكم بأنه يفعل شيئاً، وقيل : أحكم أمراً، قال الشاعر :
وعليهما مسرودتان قضاهما
داود أو صنع السوابغ تبع
المسألة الثالثة : اتفقوا على أن لفظ الأمر حقيقة في القول المخصوص، وهل هو حقيقة في الفعل والشأن الحق ؟
نعم وهو المراد بالأمر ههنا، وبسط القول فيه مذكور في أصول الفقه.