المسألة الرابعة : قرأ ابن عامر :﴿كُن فَيَكُونُ﴾ (آل عمران : ٤٧) بالنصب في كل القرآن إلا في موضعين : في أول آل عمران :﴿كُن فَيَكُونُ * الْحَقُّ﴾ (آل عمران : ٥٩، ٦٠) وفي الأنعام :﴿كُن فَيَكُونُا قَوْلُهُ الْحَقُّ ﴾ (الأنعام : ٧٣) فإنه رفعهما، وعن الكسائي بالنصب في النحل ويس وبالرفع في سائر القرآن، والباقون بالرفع في كل القرآن، أما النصب فعلى جواب الأمر، وقيل هو بعيد، والرفع على الاستئناف أي فهو يكون.
جزء : ٤ رقم الصفحة : ٢٢
المسألة الخامسة : اعلم أنه ليس المراد من قوله تعالى :﴿فَإِنَّمَا يَقُولُ لَه كُن فَيَكُونُ﴾ (آل عمران : ٤٧) هو أنه تعالى يقول له :﴿كُن﴾ فحينئذ يتكون ذلك الشيء فإن ذلك فاسد والذي يدل عليه وجوه. الأول : أن قوله :﴿كُن فَيَكُونُ﴾ إما أن يكون قديماً أو محدثاً والقسمان فاسدان فبطل القول بتوقف حدوث الأشياء على ﴿كُن﴾ إنما قلنا : إنه لا يجوز أن يكون قديماً لوجوه. الأول : أن كلمة ﴿كُن﴾ لفظة مركبة من الكاف والنون بشرط تقدم الكاف على النون، فالنون لكونه مسبوقاً بالكاف لا بد وأن يكون محدثاً، والكاف لكونه متقدماً على المحدث بزمان واحد يجب أن يكون محدثاً. الثاني : أن كلمة ﴿إِذَآ﴾ لا تدخل إلا على سبيل الإستقبال، فذلك القضاء لا بد وأن يكون محدثاً لأنه دخل عليه حرف ﴿إِذَآ﴾ وقوله ﴿كُن﴾ مرتب على القضاء بفاء التعقيب لأنه تعالى قال :﴿فَإِنَّمَا يَقُولُ لَه كُن﴾ والمتأخر عن المحدث محدث، فاستحال أن يكون :﴿كُن﴾ قديماً. الثالث : أنه تعالى رتب تكون المخلوق على قوله :﴿كُن﴾ بفاء التعقيب فيكون قوله :﴿كُن﴾ مقدماً على تكون المخلوق بزمان واحد والمتقدم على المحدث بزمان واحد لا بد وأن يكون محدثاً فقوله :﴿كُن﴾ لا يجوز أن يكون قديماً، ولا جائز أيضاً أن يكون قوله :﴿كُن﴾ محدثاً لأنه لو افتقر كل محدث إلى قوله :﴿كُن﴾ وقوله :﴿كُن﴾ أيضاً محدث فيلزم افتقار :﴿كُن﴾ آخر ويلزم إما التسلسل وإما الدور وهما محالان، فثبت بهذا الدليل أنه لا يجوز توقف إحداث الحوادث على قوله :﴿كُن﴾.
الحجة الثانية : أنه تعالى إما أن يخاطب المخلوق بكن قبل دخوله في الوجود أو حال دخوله في الوجود، والأول : باطل لأن خطاب المعدوم حال عدمه سفه، والثاني : أيضاً باطل لأنه يرجع حاصله إلى أنه تعالى أمر الموجود بأن يصير موجوداً وذلك أيضاً لا فائدة فيه.
الحجة الثالثة : أن المخلوق قد يكون جماداً، وتكليف الجماد عبث ولا يليق بالحكيم.
جزء : ٤ رقم الصفحة : ٢٢
الحجة الرابعة : أن القادر هوالذي يصح منه الفعل وتركه بحسب الإرادات، فإذا فرضنا القادر المريد منفكاً عن قوله :﴿كُن﴾ فإما أن يتمكن من الإيجاد والأحداث أو لا يتمكن، فإن تمكن لم يكن الإيجاد موقوفاً على قوله :﴿كُن﴾ وإن لم يتمكن فحينئذ يلزم أن لا يكون القادر قادراً على الفعل إلا عند تكلمه بكن فيرجع حاصل الأمر إلى أنكم سمعتم القدرة بكن وذلك نزاع في اللفظ.
الحجة الخامسة : أن ﴿كُن﴾ لو كان له أثر في التكوين لكنا إذا تكلمنا بهذه الكلمة وجب أن يكون لها ذلك التأثير، ولما علمنا بالضرورة فساد ذلك علمنا أنه لا تأثير لهذه الكلمة.
الحجة السادسة : أن ﴿كُن﴾ كلمة مركبة من الكاف والنون، بشرط كون الكاف متقدماً على النون، فالمؤثر إما أن يكون هو أحد هذين الحرفين أو مجموعهما، فإن كان الأول لم يكن لكلمة ﴿كُن﴾ أثر البتة، بل التأثير لأحد هذين الحرفين، وإن كان الثاني فهو محال، لأنه لا وجود لهذا المجموع البتة لأنه حين حصل الحرف الأول لم يكن الثاني حاصلاً، وحين جاء الثاني فقد فات الأول، وإن لم يكن للمجموع وجود البتة استحال أن يكون للمجموع أثر البتة.
الحجة السابعة : قوله تعالى :﴿إِنَّ مَثَلَ عِيسَى عِندَ اللَّهِ كَمَثَلِ ءَادَمَا خَلَقَه مِن تُرَابٍ ثُمَّ قَالَ لَه كُن فَيَكُونُ﴾ (آل عمران : ٥٩) بين أن قوله :﴿كُن﴾ متأخر عن خلقه إذ المتأخر عن الشيء لا يكون مؤثراً في المتقدم عليه، فعلمنا أنه لا تأثير لقوله :﴿كُن﴾ في وجود الشيء فظهر بهذه الوجوه فساد هذا المذهب، وإذا ثبت هذا فنقول لا بد من التأويل وهو من وجوه :