المسألة الخامسة : اختلف المفسرون في أن ظاهر اللفظ هل يدل على تلك الكلمات أم لا ؟
فقال بعضهم : اللفظ يدل عليها وهي التي ذكرها الله تعالى من الإمامة وتطهير البيت ورفع قواعده والدعاء بإبعاث محمد صلى الله عليه وسلّم، فإن هذه الأشياء أمور شاقة، أما الإمامة فلأن المراد منها ههنا هو النبوة، وهذا التكليف يتضمن مشاق عظيمة، لأن النبي صلى الله عليه وسلّم يلزمه أن يتحمل جميع المشاق والمتاعب في تبليغ الرسالة، وأن لا يخون في أداء شيء منها، ولو لزمه القتل بسبب ذلك ولا شك أن ذلك من أعظم المشاق، ولهذا قلنا : إن ثواب النبي أعظم من ثواب غيره، وأما بناء البيت وتطهيره ورفع قواعده، فمن وقف على ما روي في كيفية بنائه عرف شدة البلوى فيه، ثم أنه يتضمن إقامة المناسك، وقد امتحن الله الخليل عليه الصلاة والسلام بالشيطان في الموقف لرمي الجمار وغيره، وأما اشتغاله بالدعاء في أن يبعث الله تعالى محمداً صلى الله عليه وسلّم في آخر الزمان، فهذا مما يحتاج إليه إخلاص العمل لله تعالى، وإزالة الحسد عن القلب بالكلية، فثبت أن الأمور المذكورة عقيب هذه الآية : تكاليف شاقة شديدة، فأمكن أن يكون المراد من ابتلاء الله تعالى إياه بالكلمات هو ذلك، ثم الذي يدل على أن المراد ذلك أنه عقبه بذكره من غير فصل بحرف من حروف العطف فلم يقبل، وقال : إني جاعلك للناس إماماً، بل قال :﴿إِنِّى جَـاعِلُكَ﴾ فدل هذا على أن ذلك الابتلاء ليس إلا التكليف بهذه الأمور المذكورة، واعترض القاضي على هذا القول فقال : هذا إنما يجوز لو قال الله تعالى : وإذ ابتلى إبراهيم ربه بكلمات فأتمها إبراهيم، ثم أنه تعالى قال له بعد ذلك : إني جاعلك للناس إماماً فأتمهن، إلا أنه ليس كذلك/ بل ذكر قوله :﴿إِنِّى جَـاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِمَامًا ﴾ بعد قوله :﴿فَأَتَمَّهُنَّ ﴾ وهذا يدل على أنه تعالى امتحنه بالكلمات وأتمها إبراهيم، ثم أنه تعالى قال له بعد ذلك :﴿إِنِّى جَـاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِمَامًا ﴾ ويمكن أن يجاب عنه بأنه ليس المراد من الكلمات الإمامة فقط، بل الإمامة وبناء البيت وتطهيره والدعاء في بعثة محمد صلى الله عليه وسلّم، كأن الله تعالى ابتلاه بمجموع هذه الأشياء، فأخبر الله تعالى عنه أنه ابتلاه بأمور على الإجمال، ثم أخبر عنه أنه أتمها، ثم عقب ذلك بالشرح والتفصيل، وهذا مما لا يعد فيه. القول الثاني : أن ظاهر الآية لا دلالة فيه على المراد بهذه الكلمات وهذا القول يحتمل وجهين، أحدهما : بكلمات كلفه الله بهن، وهي أوامره ونواهيه فكأنه تعالى قال :
جزء : ٤ رقم الصفحة : ٣٠
﴿وَإِذِ ابْتَلَى ا إِبْرَاه مَ رَبُّه بِكَلِمَـاتٍ﴾ مما شاء كلفه بالأمر بها. والوجه الثاني : بكلمات تكون من إبراهيم يكلم بها قومه، أي يبلغهم إياها، والقائلون بالوجه الأول اختلفوا في أن ذلك التكليف بأي شيء كان على أقوال. أحدها : قال ابن عباس : هي عشر خصال كانت فرضاً في شرعه وهي سنة في شرعنا، خمس في الرأس وخمس في الجسد، أما التي في الرأس : فالمضمضة، والإستنشاق / وفرق الرأس، وقص الشارب، والسواك، وأما التي في البدن : فالختان، وحلق العانة، ونتف الإبط، وتقليم الأظفار، والاستنجاء بالماء. وثانيها : قال بعضهم : ابتلاه بثلاثين خصلة من خصال الإسلام، عشر منها في سورة براءة :﴿التَّـا ئِبُونَ الْعَـابِدُونَ﴾ (التوبة : ١١٢) إلى آخر الآية، وعشر منها في سورة الأحزاب :﴿إِنَّ الْمُسْلِمِينَ وَالْمُسْلِمَـاتِ﴾ (الأحزاب : ٣٥) إلى آخر الآية، وعشر منها في المؤمنون :﴿قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ﴾ (المؤمنون : ١) إلى قوله :﴿ أولئك هُمُ الْوَارِثُونَ﴾ (المؤمنون : ١٠) وروى عشر في :﴿سَأَلَ سَآاـاِلُ ﴾ (المعارج : ١) إلى قوله :﴿وَالَّذِينَ هُمْ عَلَى صَلاتِهِمْ يُحَافِظُونَ﴾ (المعارج : ٣٤) فجعلها أربعين سهماً عن ابن عباس. وثالثها : أمره بمناسك الحج، كالطواف والسعي والرمي والإحرام وهو قول قتادة وابن عباس. ورابعها : ابتلاه بسبعة أشياء : بالشمس، والقمر، والكواكب، والختان على الكبر، والنار، وذبح الولد، والهجرة، فوفي بالكل فلهذا قال الله تعالى :﴿وَإِبْرَاهِيمَ الَّذِى وَفَّى ﴾ (النجم : ٣٧) عن الحسن. وخامسها : أن المراد ما ذكره في قوله :﴿إِذْ قَالَ لَه رَبُّه ا أَسْلِم قَالَ أَسْلَمْتُ لِرَبِّ الْعَـالَمِينَ﴾ (البقرة : ١٣١). وسادسها : المناظرات الكثيرة في التوحيد مع أبيه وقومه ومع نمرود والصلاة والزكاة والصوم، وقسم الغنائم، والضيافة، والصبر عليها، قال القفال رحمه الله : وجملة القول أن الابتلاء يتناول إلزام كل ما في فعله كلفة شدة ومشقة، فاللفظ يتناول مجموع هذه الأشياء ويتناول كل واحد منها، فلو ثبتت الرواية في الكل وجب القول بالكل، ولو ثبتت الرواية في البعض دون البعض فحينئذ يقع التعارض بين هذه الروايات، فوجب التوقف والله أعلم.
جزء : ٤ رقم الصفحة : ٣٠