المسألة السادسة : قال القاضي : هذا الابتلاء إنما كان قبل النبوة، لأن الله تعالى نبه على أن قيامه عليه الصلاة والسلام بهن كالسبب لأن يجعله الله إماماً، والسبب مقدم على المسبب، فوجب كون هذا الابتلاء متقدماً في الوجود على صيرورته إماماً وهذا أيضاً ملائم لقضايا العقول، وذلك لأن الوفاء من شرائط النبوة لا يحصل إلا بالإعراض عن جميع ملاذ الدنيا وشهواتها وترك المداهنة مع الخلق وتقبيح ما هم عليه من الأديان الباطلة والعقائد الفاسدة، وتحمل الأذى من جميع أصناف الخلق، ولا شك أن هذا المعنى من أعظم المشاق وأجل المتاعب، ولهذا السبب يكون الرسول عليه الصلاة والسلام أعظم أجراً من أمته/ وإذا كان كذلك فالله تعالى ابتلاه بالتكاليف الشاقة، فلما وفى عليه الصلاة والسلام بها لا جرم أعطاه خلعة النبوة والرسالة، وقال آخرون : إنه بعد النبوة لأنه عليه الصلاة والسلام لا يعلم كونه مكلفاً بتلك التكاليف إلا من الوحي، فلا بد من تقدم الوحي على معرفته بكونه كذلك، أجاب القاضي عنه بأنه يحتمل أنه تعالى أوحى إليه على لسان جبريل عليه السلام بهذه التكاليف الشاقة، فلما تمم ذلك جعله نبياً مبعوثاً إلى الخلق، إذا عرفت هذه المسألة فنقول ما قال القاضي : يجوز أن يكون المراد بالكلمات، ما ذكره الحسن من حديث الكوكب والشمس والقمر، فإنه عليه الصلاة والسلام ابتلاه الله بذلك قبل النبوة، أما ذبح الولد والهجرة والنار فكل ذلك كان بعد النبوة، وكذا الختان، فإنه عليه السلام يروي أنه ختن نفسه وكان سنه مائة وعشرين سنة، ثم قال : فإن قامت الدلالة السمعية القاهرة على أن المراد من الكلمات / هذه الأشياء كان المراد من قوله : أنه سبحانه علم من حاله أنه يتمهن ويقوم بهن بعد النبوة فلا جرم أعطاه خلعة الإمامة والنبوة.
المسألة السابعة : الضمير المستكن في ﴿بِكَلِمَـاتٍ فَأَتَمَّهُنَّ ﴾ في إحدى القراءتين لإبراهيم بمعنى فقام بهن حق القيام، وأداهن أحسن التأدية، من غير تفريط وتوان. ونحوه :﴿وَإِبْرَاهِيمَ الَّذِى وَفَّى ﴾ وفي الأخرى لله تعالى بمعنى : فأعطاه ما طلبه لم ينقص منه شيئاً.
أما قوله تعالى :﴿إِنِّى جَـاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِمَامًا ﴾ فالإمام اسم من يؤتم به كالإزار لما يؤتزر به، أي يأتمون بك في دينك. وفيه مسائل :
جزء : ٤ رقم الصفحة : ٣٠
المسألة الأولى : قال أهل التحقيق : المراد من الإمام ههنا النبي ويدل عليه وجوه. أحدها : أن قوله :﴿لِلنَّاسِ إِمَامًا ﴾ يدل على أنه تعالى جعله إماماً لكل الناس والذي يكون كذلك لا بد وأن يكون رسولاً من عند الله مستقلاً بالشرع لأنه لو كان تبعاً لرسول آخر لكان مأموماً لذلك الرسول لا إماماً له، فحينئذ يبطل العموم. وثانيها : أن اللفظ يدل على أنه إمام في كل شيء والذي يكون كذلك لا بد وأن يكون نبياً. وثالثها : أن الأنبياء عليهم السلام أئمة من حيث يجب على الخلق اتباعهم، قال الله تعالى :﴿وَجَعَلْنَـاهُمْ أَاـاِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا﴾ (الأنبياء : ٧٣) والخلفاء أيضاً أئمة لأنهم رتبوا في المحل الذي يجب على الناس اتباعهم وقبول قولهم وأحكامهم والقضاة والفقهاء أيضاً أئمة لهذا المعنى، والذي يصلي بالناس يسمى أيضاً إماماً لأن من دخل في صلاته لزمه الائتمام به. قال عليه الصلاة والسلام :"إنما جعل الإمام إماماً ليؤتم به فإذا ركع فاركعوا وإذا سجد فاسجدوا ولا تختلفوا على إمامكم" فثبت بهذ أن اسم الإمام لمن استحق الاقتداء به في الدين وقد يسمى بذلك أيضاً من يؤتم به في الباطل، قال الله تعالى :﴿وَجَعَلْنَـاهُمْ أَاـاِمَّةً يَدْعُونَ إِلَى النَّارِ ﴾ (القصص : ٤١) إلا أن اسم الإمام لا يتناوله على الإطلاق بل لا يستعمل فيه إلا مقيداً، فإنه لما ذكر أئمة الضلال قيده بقوله تعالى :﴿يَدْعُونَ إِلَى النَّارِ ﴾ كما أن اسم الإله لا يتناول إلا المعبود الحق، فأما المعبود الباطل فإنما يطلق عليه اسم الإله مع القيد، قال الله تعالى :﴿فَمَآ أَغْنَتْ عَنْهُمْ ءَالِهَتُهُمُ الَّتِى يَدْعُونَ مِن دُونِ اللَّهِ مِن شَىْءٍ﴾ (هود : ١٠١) وقال :﴿وَانظُرْ إِلَى ا إِلَـاهِكَ الَّذِى ظَلْتَ عَلَيْهِ عَاكِفًا ﴾ (طه : ٩٧) إذا ثبت أن اسم الإمام يتناول ما ذكرناه، وثبت أن الأنبياء في أعلى مراتب الإمامة وجب حمل اللفظ ههنا عليه، لأن الله تعالى ذكر لفظ الإمام ههنا في معرض الامتنان، فلا بد وأن تكون تلك النعمة من أعظم النعم ليحسن نسبة الامتنان فوجب حمل هذه الإمامة على النبوة.