المسألة الثانية : أن الله تعالى لما وعده بأن يجعله إماماً للناس حقق الله تعالى ذلك الوعد فيه إلى قيام الساعة، فإن أهل الأديان على شدة اختلافها ونهاية تنافيها يعظمون إبراهيم عليه الصلاة والسلام ويتشرفون بالانتساب إليه إما في النسب وإما في الدين والشريعة حتى إن عبدة الأوثان كانوا معظمين لإبراهيم عليه السلام، وقال الله تعالى في كتابه :﴿ثُمَّ أَوْحَيْنَآ إِلَيْكَ أَنِ اتَّبِعْ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا ﴾ (النحل : ١٢٣) وقال :﴿وَمَن يَرْغَبُ عَن مِّلَّةِ إِبْرَاه مَ إِلا مَن سَفِهَ نَفْسَه ﴾ (البقرة : ١٣٠) وقال في آخر سورة الحج :﴿مِّلَّةَ أَبِيكُمْ إِبْرَاهِيمَا هُوَ سَمَّـاـاكُمُ الْمُسْلِمِينَ مِن قَبْلُ﴾ (الحج : ٧٨) وجميع أمة محمد عليه الصلاة والسلام يقولون في آخر الصلاة وارحم محمداً وآل محمد كما صليت وباركت وترحمت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم.
جزء : ٤ رقم الصفحة : ٣٠
المسألة الثالثة : القائلون بأن الإمام لا يصير إماماً إلا بالنص تمسكوا بهذه الآية فقالوا : إنه تعالى بين أنه إنما صار إماماً بسبب التنصيص على إمامته ونظيره قوله تعالى :﴿إِنِّي جَاعِلٌ فِى الارْضِ خَلِيفَةً ﴾ (البقرة : ٣٠) فبين أنه لا يحصل له منصب الخلافة بالتنصيص عليه وهذا ضعيف لأنا بينا أن المراد بالإمامة ههنا النبوة، ثم إن سلمنا أن المراد منها مطلق الإمامة لكن الآية تدل على أن النص طريق الإمامة وذلك لا نزاع فيه، إنما النزاع في أنه هل تثبت الإمامة بغير النص، وليس في هذه الآية تعرض لهذه المسألة لا بالنفي ولا بالإثبات.
المسألة الرابعة : قوله :﴿إِنِّى جَـاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِمَامًا ﴾ يدل على أنه عليه السلام كان معصوماً عن جميع الذنوب لأن الإمام هو الذي يؤتم به ويقتدى، فلو صدرت المعصية منه لوجب علينا الاقتداء به في ذلك، فيلزم أن يجب علينا فعل المعصية وذلك محال لأن كونه معصية عبارة عن كونه ممنوعاً من فعله وكونه واجباً عبارة عن كونه ممنوعاً من تركه والجميع محال.
أما قوله :﴿مِن ذُرِّيَّتِى﴾ ففيه مسائل :
المسألة الأولى : الذرية : الأولاد وأولاد الأولاد للرجل وهو من ذرأ الله الخلق وتركوا همزها للخفة كما تركوا في البرية وفيه وجه آخر وه وأن تكون منسوبة إلى الذر.
المسألة الثانية : قوله ؛ ﴿وَمِن ذُرِّيَّتِى ﴾ عطف على الكاف كأنه قال : وجاعل بعض ذريتي كما يقال لك : سأكرمك، فتقول : وزيداً.
المسألة الثالثة : قال بعضهم : إنه تعالى أعلمه أن في ذريته أنبياء فأراد أن يعلم هل يكون ذلك في كلهم أو في بعضهم وهل يصلح جميعهم لهذا الأمر ؟
فأعلمه الله تعالى أن فيهم ظالماً لا يصلح لذلك وقال آخرون : إنه عليه السلام ذكر ذلك على سبيل الاستعلام ولما لم يعلم على وجه المسألة، فأجابه الله تعالى صريحاً بأن النبوة لا تنال الظالمين منهم، فإن قيل : هل كان إبراهيم عليه السلام مأذوناً في قوله :﴿وَمِن ذُرِّيَّتِى ﴾ أو لم يكن مأذوناً فيه ؟
فإن أذن الله تعالى في هذا الدعاء فلم رد دعاءه ؟
وإن لم يأذن له فيه كان ذلك ذنباً، قلنا : قوله :﴿وَمِن ذُرِّيَّتِى ﴾ يدل على أنه عليه السلام طلب أن يكون بعض ذريته أئمة للناس، وقد حقق الله تعالى إجابة دعائه في المؤمنين من ذريته كاسماعيل وإسحق ويعقوب ويوسف وموسى وهرون وداود وسليمان وأيوب ويونس وزكريا ويحيى وعيسى وجعل آخرهم محمداً صلى الله عليه وسلّم من ذريته الذي هو أفضل الأنبياء والأئمة عليهم السلام.
جزء : ٤ رقم الصفحة : ٣٠
أما قوله تعالى :﴿قَالَ لا يَنَالُ عَهْدِي الظَّـالِمِينَ﴾ ففيه مسائل :
المسألة الأولى : قرأ حمزة وحفص عن عاصم :﴿عَهْدِي﴾ بإسكان الياء، والباقون بفتحها، / وقرأ بعضهم :﴿لا يَنَالُ عَهْدِي الظَّـالِمِينَ﴾ أي من كان ظالماً من ذريتك فإنه لا ينال عهدي.
المسألة الثانية : ذكروا في العهد وجوهاً. أحدها : أن هذا العهد هو الإمامة المذكورة فيما قبل، فإن كان المراد من تلك الإمامة هو النبوة فكذا وإلا فلا. وثانيها :﴿عَهْدِي﴾ أي رحمتي عن عطاء. وثالثها : طاعتي عن الضحاك. ورابعها : أماني عن أبي عبيد، والقول الأول أولى لأن قوله :﴿وَمِن ذُرِّيَّتِى ﴾ طلب لتلك الإمامة التي وعده بها بقوله :﴿إِنِّى جَـاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِمَامًا ﴾ فقوله :﴿لا يَنَالُ عَهْدِي الظَّـالِمِينَ﴾ لا يكون جواباً عن ذلك السؤال إلا إذا كان المراد بهذا العهد تلك الإمامة.
المسألة الثالثة : الآية دالة على أنه تعالى سيعطي بعض ولده ما سأل، ولولا ذلك لكان الجواب : لا، أو يقول : لا ينال عهدي ذريتك، فإن قيل : أفما كان إبراهيم عليه السلام عالماً بأن النبوة لا تليق بالظالمين، قلنا : بلى، ولكن لم يعلم حال ذريته، فبين الله تعالى أن فيهم من هذا حاله وأن النبوة إنما تحصل لمن ليس بظالم.
جزء : ٤ رقم الصفحة : ٣٠


الصفحة التالية
Icon