جزء : ٤ رقم الصفحة : ٤٧
الوجه الثاني : يحتمل أن إبراهيم عليه السلام قوي في ظنه أنه إن دعا للكل كثر في البلد الكفار فيكون في غلبتهم وكثرتهم مفسدة ومضرة من ذهاب الناس إلى الحج، فخص المؤمنين بالدعاء لهذا السبب، أما قوله تعالى :﴿وَمَن كَفَرَ فَأُمَتِّعُه قَلِيلا﴾ ففيه مسألتان :
المسألة الأولى : قرأ ابن عامر ﴿فَأُمَتِّعُه ﴾ بسكون الميم خفية من أمتعت، والباقون بفتح الميم مشددة من متعت، والتشديد يدل على التكثير بخلاف التخفيف.
المسألة الثانية : أمتعه قيل : بالرزق، وقيل : بالبقاء في الدنيا، وقيل : بهما إلى خروج محمد صلى الله عليه وسلّم فيقتله أو يخرجه من هذه الديار إن أقام على الكفر، والمعنى أن الله / تعالى كأنه قال : إنك وإن كنت خصصت بدعائك المؤمنين فإني أمتع الكافر منهم بعاجل الدنيا، ولا أمنعه من ذلك ما أتفضل به على المؤمنين إلى أن يتم عمره فأقبضه ثم اضطره في الآخرة إلى عذاب النار، فجعل ما رزق الكافر في دار الدنيا قليلاً، إذ كان واقعاً في مدة عمره، وهي مدة واقعة فيما بين الأزل والأبد، وهو بالنسبة إليهما قليل جداً، والحاصل أن الله تعالى بين أن نعمة المؤمن في الدنيا موصولة بالنعمة في الآخرة، بخلاف الكافر فإن نعمته في الدنيا تنقطع عند الموت وتتخلص منه إلى الآخرة، أما قوله :﴿ثُمَّ أَضْطَرُّه ا إِلَى عَذَابِ النَّارِ ﴾ فاعلم أن في الإضطرار قولين : أحدهما : أن يفعل به ما يتعذر عليه الخلاص منه وههنا كذلك، كما قال الله تعالى :﴿يَوْمَ يُدَعُّونَ إِلَى نَارِ جَهَنَّمَ دَعًّا﴾ و﴿يَوْمَ يُسْحَبُونَ فِى النَّارِ عَلَى وُجُوهِهِمْ﴾ (القمر : ٤٨) يقال : اضطررته إلى الأمر أي الجأته وحملته عليه من حيث كان كارهاً له، وقالوا : إن أصله من الضر وهو إدناء الشيء من الشيء، ومنه ضرة المرأة لدنوها وقربها. والثاني : أن الإضطرار هو أن يصير الفاعل بالتخويف والتهديد إلى أن يفعل ذلك الفعل اختياراً، كقوله تعالى :﴿فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ بَاغٍ وَلا عَادٍ﴾ (البقرة : ١٧٣) (الأنعام : ١٤٥) (النحل : ١١٥) فوصفه بأنه مضطر إلى تناول الميتة، وإن كان ذلك الأكل فعله فيكون المعنى : أن الله تعالى يلجئه إلى أن يختار النار والإستقرار فيها بأن أعلمه بأنه لو رام التخلص لمنع منه، لأن من هذا حاله يجعل ملجأ إلى الوقوع في النار، ثم بين تعالى أن ذلك بئس المصير، لأن نعم المصير ما ينال فيه النعيم والسرور، وبئس المصير ضده.
جزء : ٤ رقم الصفحة : ٤٧
٥٠
اعلم أن هذا هو النوع الرابع من الأمور التي حكاها الله تعالى عن إبراهيم وإسماعيل عليهما السلام، وهو أنهما عند بناء البيت ذكرا ثلاثة من الدعاء ثم ههنا مسائل :
المسألة الأولى : قوله :﴿وَإِذْ يَرْفَعُ﴾ حكاية حال ماضية والقواعد جمع قاعدة وهي الأساس، والأصل لما فوقه، وهي صفة غالبة، ومعناها الثابتة، ومنه أقعدك الله أي أسأل الله أن يقعدك أي يثبتك ورفع الأساس البناء عليها، لأنها إذا بني عليها نقلت عن هيئة الانخفاض إلى هيئة الارتفاع وتطاولت بعد التقاصر ويجوز أن يكون المراد بها سافات البناء لأن كل ساف قاعدة للذي يبنى عليه ويوضع فوقه، ومعنى رفع القواعد رفعها بالبناء لأنه إذا وضع سافاً فوق ساف فقد رفع السافات والله أعلم.
المسألة الثانية : الأكثرون من أهل الأخبار على أن هذا البيت كان موجوداً قبل إبراهيم عليه السلام على ما روينا من الأحاديث فيه واحتجوا بقوله :﴿وَإِذْ يَرْفَعُ إِبْرَاه مُ الْقَوَاعِدَ مِنَ الْبَيْتِ﴾ فإن هذا صريح في أن تلك القواعد كانت موجودة متهدمة إلا أن إبراهيم عليه السلام رفعها وعمرها.


الصفحة التالية
Icon