المسألة الثالثة : اختلفوا في أنه هل كان إسماعيل عليه السلام شريكاً لإبراهيم عليه السلام في رفع قواعد البيت وبنائه ؟
قال الأكثرون : إنه كان شريكاً له في ذلك والتقدير وإذ يرفع إبراهيم وإسماعيل القواعد من البيت والدليل عليه أنه تعالى عطف إسماعيل على إبراهيم فلا بد وأن يكون ذلك العطف في فعل من الأفعال التي سلف ذكرها ولم يتقدم إلا ذكر رفع قواعد البيت موجب أن يكون إسماعيل معطوفاً على إبراهيم في ذلك، ثم ان اشتراكهما في ذلك يحتمل وجهين. أحدهما : أن يشتركا في البناء ورفع الجدران. والثاني : أن يكون أحدهما بانياً للبيت والآخر يرفع إليه الحجر والطين، ويهيىء له الآلات والأدوات، وعلى الوجهين تصح إضافة الرفع إليهما، وإن كان الوجه الأول أدخل في الحقيقة ومن الناس من قال : إن إسماعيل في ذلك الوقت كان طفلاً صغيراً وروي معناه عن علي رضي الله عنه، وأنه لما بنى البيت خرج وخلف إسماعيل وهاجر فقالا : إلى من تكلنا ؟
فقال إبراهيم : إلى الله فعطش إسماعيل فلم ير شيئاً من الماء فناداهما جبريل عليه السلام وفحص الأرض بأصبعه فنبعت زمزم وهؤلاء جعلوا الوقف على قوله :﴿مِنَ الْبَيْتِ﴾ ثم ابتدؤا : وإسماعيل ربنا تقبل منا طاعتنا ببناء هذا البيت فعلى هذا التقدير يكون إسماعيل شريكاً في الدعاء لا في البناء، وهذا التأويل ضعيف لأن قوله :﴿تَقَبَّلْ مِنَّآ ﴾ ليس فيه ما يدل على أنه تعالى ماذا يقبل فوجب صرفه إلى المذكور السابق وهو رفع البيت فإذا لم يكن ذلك من فعله كيف يدعو الله بأن يتقبله منه، فإذن هذا القول على خلاف ظاهر القرآن فوجب رده والله أعلم.
جزء : ٤ رقم الصفحة : ٥٠
المسألة الرابعة : إنما قال :﴿وَإِذْ يَرْفَعُ إِبْرَاه مُ الْقَوَاعِدَ مِنَ الْبَيْتِ﴾ ولم يقل يرفع قواعد البيت لأن في إبهام القواعد وتبيينها بعد الإبهام من تفخيم الشأن ما ليس في العبارة الأخرى، واعلم أن الله تعالى حكى عنهما بعد ذلك ثلاثة أنواع من الدعاء.
النوع الأول : في قوله تعالى :﴿تَقَبَّلْ مِنَّآا إِنَّكَ أَنتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ﴾ وفيه مسائل :
المسألة الأولى : اختلفوا في تفسير قوله :﴿تَقَبَّلْ مِنَّآ ﴾ فقال المتكلمون : كل عمل يقبله الله تعالى فهو يثيب صاحبه ويرضاه منه، والذي لا يثيبه عليه ولا يرضاه منه فهو المردود، فههنا عبر عن أحد المتلازمين باسم الآخر، فذكر لفظ القبول وأراد به الثواب والرضا لأن التقبل هو أن يقبل الرجل ما يهدى إليه، فشبه الفعل من العبد بالعطية، والرضا من الله بالقبول توسعاً. وقال العارفون : فرق بين القبول والتقبل فإن التقبل عبارة عن أن يتكلف الإنسان في قبوله وذلك إنما يكون حيث يكون العمل ناقصاً لا يستحق أن يقبل فهذا اعتراف منهما بالتقصير في العمل، واعتراف بالعجز والانكسار، وأيضاً فلم يكن المقصود إعطاء الثواب عليه، لأن كون الفعل واقعاً موقع القبول من المخدوم ألذ عند الخادم العاقل من إعطاء الثواب عليه وتمام تحقيقه سيأتي في تفسير المحبة في قوله تعالى :﴿وَالَّذِينَ ءَامَنُوا أَشَدُّ حُبًّا لِّلَّه ﴾ (البقرة : ١٦٥) والله أعلم.
المسألة الثانية : إنهم بعد أن أتوا بتلك العبادة مخلصين تضرعوا إلى الله تعالى في قبولها وطلبوا الثواب عليها على ما قاله المتكلمون، ولو كان ترتيب الثواب على الفعل المقرون بالإخلاص واجباً على الله تعالى، لما كان في هذا الدعاء والتضرع فائدة، فإنه يجري مجرى أن الإنسان يتضرع إلى الله فيقول : يا إلهي اجعل النار حارة والجمد بارداً بل ذلك الدعاء أحسن لأنه لا استبعاد عند المتكلم في صيرورة النار حال بقائها على صورتها في الإشراق والاشتعال باردة، والجمد حال بقائه على صورته في الإنجماد والبياض حاراً ويستحيل عند المعتزلة أن لا يترتب الثواب على مثل هذا الفعل فوجب أن يكون الدعاء ههنا أقبح فلما لم يكن كذلك علمنا أنه لا يجب للعبد على الله شيء أصلاً والله أعلم.
المسألة الثانية : إنما عقب هذا الدعاء بقوله :﴿إِنَّكَ أَنتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ﴾ كأنه يقول : تسمع دعاءنا وتضرعنا، وتعلم ما في قلبنا من الإخلاص وترك الالتفات إلى أحد سواك. فإن قيل : قوله :﴿إِنَّكَ أَنتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ﴾ يفيد الحصر وليس الأمر كذلك، فإن غيره قد يكون سميعاً. قلنا : إنه سبحانه لكماله في هذه الصفة يكون كأنه هو المختص بها دون غيره.
جزء : ٤ رقم الصفحة : ٥٠
النوع الثاني : من الدعاء قوله :﴿رَبَّنَا وَاجْعَلْنَا مُسْلِمَيْنِ لَكَ﴾ وفيه مسائل :


الصفحة التالية
Icon