﴿وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَـابَ﴾ أي يعلمهم ما فيه من الأحكام. (والحكمة) أراد بها أنه يعلمهم حكمة تلك الشرائع وما فيها من وجوه المصالح والمنافع، ومن الناس من قال : الكل صفات الكتاب كأنه تعالى وصفه بأنه آيات، وبأنه كتاب، وبأنه حكمة. الصفة الرابعة : من صفات الرسول صلى الله عليه وسلّم : قوله :"ويزكيهم" واعلم أن كمال حال الإنسان في أمرين. أحدهما : أن يعرف الحق لذاته. والثاني : أن يعرف الخير لأجل العمل به، فإن أخل بشيء من هذين الأمرين لم يكن طاهراً عن الرذائل والنقائص، ولم يكن زكياً عنها، فلما ذكر صفات الفضل والكمال أردفها بذكر التزكية عن الرذائل والنقائص، فقال :(ويزكيهم) واعلم أن الرسول لا قدرة له على التصرف في بواطن المكلفين، وبتقدير أن تحصل له هذه القدرة لكنه لا يتصرف فيها وإلا لكان ذلك الزكاء حاصلاً فيهم على سبيل الجبر لا على سبيل الاختيار، فإذن هذه التزكية لها تفسيران. الأول : ما يفعله سوى التلاوة وتعليم الكتاب والحكمة، حتى يكون ذلك كالسبب لطهارتهم، وتلك الأمور ما كان يفعله عليه السلام من الوعد والإيعاد، والوعظ والتذكير، وتكرير ذلك عليهم، ومن التشبث بأمور الدنيا إلى أن يؤمنوا ويصلحوا، فقد كان عليه السلام يفعل من هذا الجنس أشياء كثيرة ليقوي بها دواعيهم إلى الإيمان والعمل الصالح، ولذلك مدحه تعالى بأنه على خلق عظيم، وأنه أوتي مكارم الأخلاق. الثاني : يزكيهم، يشهد لهم بأنهم أزكياء يوم القيامة إذا شهد على كل نفس بما كسبت، كتزكية المزكي الشهود، والأول أجود لأنه أدخل في مشاكلة مراده بالدعاء، لأن مراده أن يتكامل لهذه الذرية الفوز بالجنة، وذلك لا يتم إلا بتعليم الكتاب والحكمة، ثم بالترغيب الشديد في العمل والترهيب عن الاخلال بالعمل وهو التزكية، هذا هو الكلام الملخص في هذه الآية، وللمفسرين فيه عبارات. أحدها : قال الحسن : يزكيهم : يطهرهم من شركهم، فدلت الآية على أنه سيكون في ذرية إسماعيل جهال لا حكمة فيهم ولا كتاب، وأن الشرك ينجسهم، وأنه تعالى يبعث فيهم رسولاً منهم يطهرهم ويجعلهم حكماء الأرض بعد جهلهم. وثانيها : التزكية هي الطاعة لله والإخلاص عن ابن عباس. وثالثها : ويزكيهم عن الشرك وسائر الأرجاس، كقوله :﴿وَيُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّبَـاتِ وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبَـا ئِثَ﴾ (الأعراف : ٥٧) واعلم أنه عليه السلام لما ذكر هذه الدعوات ختمها بالثناء على الله تعالى فقال :
جزء : ٤ رقم الصفحة : ٥٠
﴿إِنَّكَ أَنتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ﴾ والعزيز :/ هو القادر الذي لا يغلب، والحكيم هو العالم الذي لا يجهل شيئاً، وإذا كان عالماً قادراً كان ما يفعله صواباً ومبرأ عن العبث والسفه، ولولا كونه كذلك لما صح منه إجابة الدعاء ولا بعثة الرسل، ولا إنزال الكتاب، واعلم أن العزيز من صفات الذات إذا أريد اقتداره على الأشياء وامتناعه من الهضم والذلة، لأنه إذا كان منزهاً عن الحاجات لم تلحقه ذلة المحتاج، ولا يجوز أن يمنع من مراده حتى يلحقه اهتضام، فهو عزيز لا محالة، وأما الحكيم فإذا أريد به معنى العليم فهو من صفات الذات، فإذا أريد بالعزة كمال العزة وهو الامتناع من استيلاء الغير عليه، وأريد بالحكمة أفعال الحكمة لم يكن العزيز والحكيم من صفات الذات بل من صفات الفعل والفرق بين هذين النوعين من الصفات وجوه. أحدها : أن صفات الذات أزلية، وصفات الفعل ليست كذلك. وثانيها : أن صفات الذات لا يمكن أن تصدق نقائضها في شيء من الأوقات، وصفات الفعل ليست كذلك. وثالثها : أن صفات الفعل أمور نسبية يعتبر في تحققها صدور الآثار عن الفاعل، وصفات الذات ليست كذلك، واحتج النظام على أنه تعالى غير قادر على القبيح بأن قال : الإله يجب أن يكون حكيماً لذاته، وإذا كان حكيماً لذاته لم يكن القبيح مقدوراً/ والحكمة لذاتها تنافي فعل القبيح، فالإله يستحيل منه فعل القبيح، وما كان محال لم يكن مقدوراً، إنما قلنا : الإله يجب أن يكون حكيماً لأنه لو لم يجب ذلك لجاز تبدله بنقيضه، فحينئذ يلزم أن يكون الإله إلهاً مع عدم الحكمة وذلك بالاتفاق محال، وأما أن الحكمة تنافي فعل السفه فذلك أيضاً معلوم بالبديهة، وأما أن مستلزم المنافي مناف فمعلوم بالبديهة، فإذن الإلهية لا يمكن تقريرها مع فعل السفه، وأما أن المحال غير مقدور فبين، فثبت أن الإله لا يقدر على فعل القبيح.
والجواب عنه : أما على مذهبنا فليس شيء من الأفعال سفهاً منه فزال السؤال والله أعلم.
جزء : ٤ رقم الصفحة : ٥٠
٦٠


الصفحة التالية
Icon