اعلم أن الله تعالى بعد أن ذكر أمر إبراهيم عليه السلام وما أجراه على يده من شرائف شرائعة التي ابتلاه بها، ومن بناء بيته وأمره بحج عباد الله إليه وما جبله الله تعالى عليه من الحرص على مصالح عباده ودعائه بالخير لهم، وغير ذلك من الأمور التي سلف في هذه الآية السالفة عجب الناس فقال :﴿وَمَن يَرْغَبُ عَن مِّلَّةِ إِبْرَاه مَ﴾ والإيمان بما أتى من شرائعه فكان في ذلك توبيخ اليهود والنصارى ومشركي العرب لأن اليهود إنما يفتخرون به ويوصلون بالوصلة التي بينهم وبينه / من نسب إسرائيل، والنصارى فافتخارهم ليس بعيسى وهو منتسب من جانب الأم إلى إسرائيل، وأما قريش فإنهم إنما نالوا كل خير في الجاهلية بالبيت الذي بناه فصاروا لذلك يدعون إلى كتاب الله، وسائر العرب وهم العدنانيون فمرجعهم إلى إسماعيل وهم يفتخرون على القحطانيين بإسماعيل بما أعطاه الله تعالى من النبوة، فرجع عند التحقيق افتخار الكل بإبراهيم عليه السلام، ولما ثبت أن إبراهيم عليه السلام هو الذي طلب من الله تعالى بعثة هذا الرسول في آخر الزمان وهو الذي تضرع إلى الله تعالى في تحصيل هذا المقصود، فالعجب ممن أعظم مفاخره وفضائله الانتساب إلى إبراهيم عليه السلام، ثم إنه لا يؤمن بالرسول الذي هو دعوة إبراهيم عليه السلام ومطلوبه بالتضرع لا شك أن هذا مما يستحق أن يتعجب منه.
أما قوله :﴿وَمَن يَرْغَبُ عَن مِّلَّةِ إِبْرَاه مَ إِلا مَن سَفِهَ نَفْسَه ﴾ ففيه مسائل :
المسألة الأولى : يقال : رغبت من الأمر إذا كرهته، ورغبت فيه إذا أردته. (ومن) الأول استفهام بمعنى الإنكار، والثانية بمعنى الذي، قال صاحب الكشاف :(من سفه) في محل الرفع على البدل من الضمير في يرغب وإنما صح البدل لأن من يرغب غير موجب كقولك : هل جاءك أحد إلا زيد.
المسألة الثانية : لقائل أن يقول ههنا سؤال وهو أن المراد بملة إبراهيم هو الملة التي جاء بها محمد عليه السلام لأن المقصود من الكلام ترغيب الناس في قبول هذا الدين فلا يخلو إما أن يقال : إن هذه الملة عين ملة إبراهيم في الأصول والفروع، أو يقال : هذه الملة هي تلك الملة في الأصول أعني التوحيد والنبوة ورعاية مكارم الأخلاق، ولكنهما يختلفان في فروع الشرائع وكيفية الأعمال.
جزء : ٤ رقم الصفحة : ٦٠
أما الأول : فباطل لأنه عليه السلام كان يدعي أن شرعه نسخ كل الشرائع، فكيف يقال هذا الشرع هو عين ذلك الشرع.
وأما الثاني : فهو لا يفيد المطلوب لأن الاعتراف بالأصول أعني التوحيد والعدل ومكارم الأخلاق والمعاد لا يقتضي الاعتراف بنبوة محمد صلى الله عليه وسلّم، فكيف يتمسك بهذا الكلام في هذا المطلوب.
وسؤال آخر وهو أن محمداً صلى الله عليه وسلّم لما اعترف بأن شرع إبراهيم منسوخ، ولفظ الملة يتناول الأصول والفروع، فيلزم أن يكون محمد عليه الصلاة والسلام راغباً أيضاً عن ملة إبراهيم فيلزم ما ألزم عليهم.
وجوابه : أنه تعالى لما حكي عن إبراهيم عليه السلام أنه تضرع إلى الله تعالى وطلب منه بعثه هذا الرسول ونصرته وتأييده ونشر شريعته، عبر عن هذا المعنى بأنه ملة إبراهيم فلما سلم اليهود والنصارى والعرب كون إبراهيم عليه السلام محقاً في مقاله، وجب عليهم الاعتراف بنبوة / هذا الشخص الذي هو مطلوب إبراهيم عليه السلام.
قال السائل : إن القول ما سلموا أن إبراهيم طلب مثل هذا الرسول من الله تعالى، وإنما محمد عليه الصلاة والسلام روى هذا الخبر عن إبراهيم عليه السلام ليبني على هذه الرواية إلزام أنه يجب عليهم الاعتراف بنبوة محمد عليه السلام/ فإذن لا تثبت نبوته ما لم تثبت هذه الرواية، ولا تثبت هذه الرواية ما لم تثبت نبوته، فيفضي إلى الدور وهو ساقط، سلمنا أن القوم سلموا صحة هذه الرواية لكن ليس في هذه الرواية إلا أن إبراهيم طلب من الله تعالى أن يبعث رسولاً من ذريته وذرية إسماعيل، فكيف القطع بأن ذلك الرسول هو هذا الشخص ؟
فلعله شخص آخر سيجيء بعد ذلك، وإذا جاز أن تتأخر إجابة هذا الدعاء بمقدار ألفي سنة، وهو الزمان الذي بين إبراهيم وبين محمد عليهما السلام، فلم لا يجوز أن تتأخر بمقدار ثلاثة آلاف سنة حتى يكون المطلوب بهذا الدعاء شخصاً آخر سوى هذا الشخص المعين ؟
والجواب عن السؤال الأول : لعل التوراة والإنجيل شاهدان بصحة هذه الرواية، ولولا ذلك لكان اليهود والنصارى من أشد الناس مسارعة إلى تكذيبه في هذه الدعوى. وعن الثاني : أن المعتمد في إثبات نبوته عليه السلام : ظهور المعجز على يده، وهو القرآن وإخباره عن الغيوب التي لا يعلمها إلا نبي مثل هذه الحكايات، ثم إن هذه الحجة تجري مجرى المؤكد للمقصود والمطلوب والله تعالى أعلم.
جزء : ٤ رقم الصفحة : ٦٠


الصفحة التالية
Icon