المسألة الثالثة : في انتصاب (نفسه) قولان. الأول : لأنه مفعول، قال المبرد : سفه لازم، وسفه متعد، وعلى هذا القول وجوه. الأول : امتهنها واستخف بها، وأصل السفه الخفة، ومنه زمام سفيه، والدليل عليه ما جاء في الحديث :"الكبر أن تسفه الحق وتغمص الناس" وذلك أنه إذا رغب عما لا يرغب عنه عاقل قط فقد بالغ في إزالة نفسه وتعجيزها، حيث خالف بها كل نفس عاقلة. والثاني : قال الحسن : إلا من جهل نفسه وخسر نفسه، وحقيقته أنه لا يرغب عن ملة إبراهيم إلا من جهل فلم يفكر فيها، فيستدل بما يجده فيها من آثار الصنعة على وحدانية الله تعالى وعلى حكمته، فيستدل بذلك على صحة نبوة محمد صلى الله عليه وسلّم. والثالث : أهلك نفسه وأوبقها عن أبي عبيدة. والرابع : أضل نفسه. القول الثاني : أن نفسه ليست مفعولاً وذكروا على هذا القول وجوهاً. الأول : أن نفسه نصب بنزع الخافض تقديره سفه في نفسه. والثاني : أنه نصب على التفسير عن الفراء ومعناه سفه نفساً ثم أضاف وتقديره إلا السفيه، وذكر النفس تأكيد كما يقال : هذا الأمر نفسه والمقصود منه المبالغة في سفهه. الثالث : قرىء :﴿إِلا مَن سَفِهَ نَفْسَه ﴾ بتشديد الفاء ثم إنه تعالى لما حكم بسفاهة من رغب عن ملة إبراهيم عليه السلام بين السبب فقال :﴿مَتَـاعٌ فِى الدُّنْيَا﴾ والمراد به أنا إذا اخترناه للرسالة من دون سائر الخليقة، وعرفناه الملة التي هي جامعة للتوحيد والعدل والشرائع والأمامة الباقية إلى قيام الساعة ثم أضيف إليه حكم الله تعالى فشرفه الله / بهذا اللقب الذي فيه نهاية الجلالة لمن نالها من ملك من ملوك البشر فكيف من نالها من ملك الملوك والشرائع فليحقق كل ذي لب وعقل أن الراغب عن ملته فهو سفيه، ثم بين أنه في الآخرة عظيم المنزلة ليرغب في مثل طريقته لينال مثل تلك المنزلة، وقيل في الآية تقديم وتأخير وتقديره : ولقد اصطفيناه في الدنيا والآخرة وإنه لمن الصالحين، وإذا صح الكلام من غير تقديم وتأخير كان أولى، قال الحسن : من الذين يستوجبون الكرامة وحسن الثواب على كرم الله تعالى.
جزء : ٤ رقم الصفحة : ٦٠
٦٢
اعلم أن هذا النوع الخامس من الأمور التي حكاها الله عن إبراهيم عليه السلام وفيه مسائل :
المسألة الأولى : موضع (إذ) نصب وفي عامله وجهان. الوجه الأول : أنه نصب باصطفيناه، أي اصطفيناه في الوقت الذي قال له ربه أسلم، فكأنه تعالى ذكر الاصطفاء ثم عقبه بذكر سبب الاصطفاء، فكأنه لما أسلم نفسه لعبادة الله تعالى وخضع لها وانقاد علم تعالى من حاله أنه لا يتغير على الأوقات وأنه مستمر على هذه الطريقة، وهو مع ذلك مطهر من كل الذنوب، فعند ذلك اختاره للرسالة واختصه بها لأنه تعالى لا يختار للرسالة إلا من هذا حاله في البدء والعاقبة، فإسلامه لله تعالى وحسن إجابته منطوق به، فإن قيل قوله :﴿وَلَقَدِ اصْطَفَيْنَـاهُ﴾ إخبار عن النفس وقوله :﴿إِذْ قَالَ لَه رَبُّه ا أَسْلِمْ ﴾ إخبار عن المغايبة فكيف يعقل أن يكون هذا النظم واحداً ؟
قلنا : هذا من باب الالتفات الذي ذكرناه مراراً. الثاني : أنه نصب باضمار أذكر كأنه قيل : اذكر ذلك الوقت ليعلم أنه المصطفي الصالح الذي لا يرغب عن ملة مثله.
المسألة الثانية : اختلفوا في أن الله تعالى متى قال له أسلم ؟
ومنشأ الإشكال أنه إنما يقال له : أسلم في زمان لا يكون مسلماً فيه، فهل كان إبراهيم عليه السلام غير مسلم في بعض الأزمنة ليقال له في ذلك الزمان أسلم ؟
فالأكثرون على أن الله تعالى إنما قال ذلك قبل النبوة وقبل البلوغ، وذلك عند استدلاله بالكوكب والقمر والشمس، واطلاعه على أمارات الحدوث فيها، وإحاطته بافتقارها إلى مدبر يخالفها في الجسمية وأمارات الحدوث، فلما عرف ربه قال له تعالى :﴿أَسْلِم قَالَ أَسْلَمْتُ لِرَبِّ الْعَـالَمِينَ﴾ لأنه لا يجوز أن يقول له ذلك قبل أن عرف ربه ويحتمل أيضاً أن يكون قوله :﴿أَسْلِمْ ﴾ كان قبل الاستدلال، فيكون المراد من هذا القول لا نفس القول بل دلالة الدليل عليه على حسب مذاهب العرب في هذا كقول الشاعر :
امتلأ الحوض وقال قطني
مهلاً رويداً قد ملأت بطني