وأما الأثر فما روى عطاء عن ابن عباس أنه قال : من شاء لاعنته عند الحجر الأسود، إن الجد أب، وقال أيضاً : ألا لا يتقي الله زيد بن ثابت يجعل ابن الابن ابناً ولا يجعل أب الأب أباً، وإذا ثبت أن الجد أب وجب أن يدخل تحت قوله تعالى :﴿وَوَرِثَه ا أَبَوَاهُ فَلامِّهِ الثُّلُثُ ﴾ (النساء : ١١) في استحقاق الجد الثلثين دون الأخوة كما استحقه الأب دونهم إذا كان باقياً، قال الشافعي رضي الله عنه : لا نسلم أن الجد أب، والدليل عليه وجوه. أحدها : أنكم كما استدللتم بهذه الآيات على أن الجد أب، فنحن نستدل على أنه ليس بأب بقوله تعالى :﴿وَوَصَّى بِهَآ إِبْرَاه مُ بَنِيهِ وَيَعْقُوبُ﴾ (البقرة : ١٣٢) فإن الله تعالى ما أدخل يعقوب في بنيه لأنه ميزه عنهم، فلو كان الصاعد في الأبوة أباً لكان النازل في البنوة ابناً في الحقيقة، فلما لم يكن كذلك ثبت أن الجد ليس بأب. وثانيها : لو كان الجد أباً على الحقيقة لما صح لمن مات أبوه وجده حي أن ينفي أن له أباً، كما لا يصح في الأب القريب ولما صح ذلك علمنا أنه ليس بأب في الحقيقة.
فإن قيل : اسم الأبوة وإن حصل في الكل إلا أن رتبة الأدنى أقرب من رتبة الأبعد فلذلك صح فيه النفي.
قلنا : لو كان الاسم حقيقة فيهما جميعاً لم يكن الترتيب في الوجود سبباً لنفي اسم الأب عنه، وثالثها : لو كان الجد أباً على الحقيقة لصح القول بأنه مات وخلف أماً وآباء كثيرين وذلك مما لم يطلقه أحد من الفقهاء وأرباب اللغة والتفسير. ورابعها : لو كان الجد أباً ولا شك أن الصحابة عارفون باللغة لما كانوا يختلفون في ميراث الجد، ولو كان الجد أباً لكانت الجدة أماً، ولو كان كذلك لما وقعت الشبهة في ميراث الجدة حتى يحتاج أبو بكر رضي الله عنه إلى السؤال عنه/ فهذه الدلائل دلت على أن الجد ليس بأب. وخامسها : قوله تعالى :﴿يُوصِيكُمُ اللَّهُ فِى أَوْلَـادِكُم لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الانثَيَيْنِ ﴾ (النساء : ١١) فلو كان الجد أباً لكان ابن الابن ابناً لا محالة فكان يلزم بمقتضى هذه الآية حصول الميراث لابن الابن مع قيام الابن، ولما لم يكن كذلك علمنا أن الجد ليس بأب، فأما الآيات التي تمسكتم بها في بيان أن الجد أب فالجواب عن وجه التمسك بها من وجوه. أولها : أنه قرأ أبي :﴿وَإِلَـاهَ ءَابَآئِكَ إِبْرَاه مَ﴾ بطرح آبائك إلا أن هذا لا يقدح في الغرض لأن القراءة الشاذة لا ترفع القراءة المتواترة، بل الجواب أن يقال : إنه أطلق لفظ الأب على الجد وعلى العم وقال عليه الصلاة والسلام في العباس :"هذا بقية آبائي" وقال :"ردوا على أبي" فدلنا ذلك على أنه ذكره على سبيل المجاز، والدليل عليه ما قدمناه أنه يصح نفي اسم الأب عن الجد، ولو كان حقيقة لما كان كذلك، وأما قول ابن عباس فإنما أطلق الاسم عليه نظراً إلى الحكم الشرعي لا إلى الاسم اللغوي لأن اللغات لا يقع الخلاف فيها بين أرباب اللسان والله أعلم.
جزء : ٤ رقم الصفحة : ٦٤
أما قوله تعالى :﴿إِلَـاهًا وَاحِدًا ﴾ فهو بدل ﴿وَإِلَـاهَ ءَابَآئِكَ إِبْرَاه مَ﴾ كقوله :﴿بِالنَّاصِيَةِ * نَاصِيَةٍ كَـاذِبَةٍ﴾ (العلق : ١٥، ١٦) أو على الاختصاص، أي تريد بإله آبائك إلهاً واحداً، أما قوله :﴿وَنَحْنُ لَه مُسْلِمُونَ﴾ ففيه وجوه. أحدها :/ أنه حال من فاعل نعبد أو من مفعوله لرجوع الهاء إليه في (له). وثانيها : يجوز أن تكون جملة معطوفة على نعبد. وثالثها : أن تكون جملة اعتراضية مؤكدة، أي ومن حالنا أنا له مسلمون مخلصون للتوحيد أو مذعنون.
أما قوله تعالى :﴿تِلْكَ أُمَّةٌ قَدْ خَلَتْ ﴾ فهو إشارة إلى من ذكرهم الله تعالى في الآية المتقدمة، وهم إبراهيم وإسماعيل وإسحاق ويعقوب وبنوه الموحدون. و(الأمة) الصنف. (خلت) سلفت ومضت وانقرضت، والمعنى أني اقتصصت عليكم أخبارهم وما كانوا عليه من الإسلام والدعوة إلى الإسلام فليس لكم نفع في سيرتهم دون أن تفعلوا ما فعلوه، فإن أنتم فعلتم ذلك انتفعتم وإن أبيتم لم تنتفعوا بأفعالهم، والآية دالة على مسائل :
المسألة الأولى : الآية دالة على بطلان التقليد، لأن قوله :﴿لَهَا مَا كَسَبَتْ﴾ يدل على أن كسب كل أحد يختص به ولا ينتفع به غيره، ولو كان التقليد جائزاً لكان كسب المتبوع نافعاً للتابع، فكأنه قال : إني ما ذكرت حكاية أحوالهم طلباً منكم أن تقلدوهم، ولكن لتنبهوا على ما يلزمكم فتستدلوا وتعلموا أن ما كانوا عليه من الملة هو الحق.
المسألة الثانية : الآية دالة على ترغيبهم في الإيمان، واتباع محمد عليه الصلاة والسلام، وتحذيرهم من مخالفته.