اعلم أن هذا هو الشبهة الثانية من الشبه التي ذكرها اليهود والنصارى طعناً في الإسلام فقالوا : النسخ يقتضي إما الجهل أو التجهيل، وكلاهما لا يليق بالحكيم، وذلك لأن الأمر إما أن يكون خالياً عن القيد، وإما أن يكون مقيداً بلا دوام، وإما أن يكون مقيداً بقيد الدوام، فإن كان خالياً عن القيد لم يقتض الفعل إلا مرة واحدة، فلا يكون ورود الأمر بعد ذلك على خلافه ناسخاً وإن كان مقيداً بقيد اللا دوام فههنا ظاهر أن الوارد بعده على خلافه لا يكون ناسخاً له، وإن كان مقيداً بقيد الدوام فإن كان الأمر يعتقد فيه أنه يبقى دائماً مع أنه ذكر لفظاً يدل على أنه يبقى دائماً ثم إنه رفعه بعد ذلك، فههنا كان جاهلاً ثم بدا له ذلك، وإن كان عالماً بأنه لا يبقى دائماً مع أنه / ذكر لفظاً يدل على أنه يبقى دائماً كان ذلك تجهيلاً فثبت أن النسخ يقتضي إما الجهل أو التجهيل وهما محالان على الله تعالى، فكان النسخ منه محالاً، فالآتي بالنسخ في أحكام الله تعالى يجب أن يكون مبطلاً فبهذا الطريق توصلوا بالقدح في نسخ القبلة إلى الطعن في الإسلام، ثم إنهم خصصوا هذه الصورة بمزيد شبهة فقالوا : إنا إذا جوزنا النسخ إنما نجوزه عند اختلاف المصالح وههنا الجهات متساوية في أنها لله تعالى ومخلوقة له فتغيير القبلة من جانب فعل خال عن المصلحة فيكون عبثاً والعبث لا يليق بالحكيم، فدل هذا على أن هذا التغيير ليس من الله تعالى، فتوصلوا بهذا الوجه إلى الطعن في الإسلام، ولنتكلم الآن في تفسير الألفاظ ثم لنذكر الجواب عن هذه الشبهة على الوجه الذي قرره الله تعالى في كتابه الكريم.
جزء : ٤ رقم الصفحة : ٧٨
أما قوله :﴿سَيَقُولُ السُّفَهَآءُ﴾ ففيه قولان. الأول : وهو اختيار القفال أن هذا اللفظ وإن كان للمستقبل ظاهراً لكنه قد يستعمل في الماضي أيضاً، كالرجل يعمل عملاً فيطعن فيه بعض أعدائه فيقول : أنا أعلم أنهم سيطعنون علي فيما فعلت، ومجاز هذا أن يكون القول فيما يكرر ويعاد، فإذا ذكروه مرة فسيذكرونه بعد ذلك مرة أخرى، فصح على هذا التأويل أن يقال : سيقول السفهاء من الناس ذلك، وقد وردت الأخبار أنهم لما قالوا ذلك نزلت الآية. القول الثاني : إن الله تعالى أخبر عنهم قبل أن ذكروا هذا الكلام أنهم سيذكرونه وفيه فوائد. أحدها : أنه عليه الصلاة والسلام إذا أخبر عن ذلك قبل وقوعه، كان هذا اخباراً عن الغيب فيكون معجزاً. وثانيها : أنه تعالى إذا أخبر عن ذلك أولاً ثم سمعه منهم، فإنه يكون تأذية من هذا الكلام أقل مما إذا سمعه منهم أولاً. وثالثها : أن الله تعالى إذا أسمعه ذلك أولاً ثم ذكر جوابه معه فحين يسمعه النبي عليه الصلاة والسلام منهم يكون الجواب حاضراً، فكان ذلك أولى مما إذا سمعه ولا يكون الجواب حاضراً، وأما السفه في أصل اللغة فقد شرحناه في تفسير قوله تعالى :﴿قَالُوا أَنُؤْمِنُ كَمَآ ءَامَنَ السُّفَهَآءُ ﴾ (البقرة : ١٣) وبالجملة فإن من لا يميز بين ما له وعليه، ويعدل عن طريق منافعه إلى ما يضره، يوصف بالخفة والسفه، ولا شك أن الخطأ في باب الدين أعظم مضرة منه في باب الدنيا فإذا كان العادل عن الرأي الواضح في أمر دنياه يعد سفيهاً، فمن يكون كذلك في أمر دينه كان أولى بهذا الاسم فلا كافر إلا وهو سفيه فهذا اللفظ يمكن حمله على اليهود، وعلى المشركين وعلى المنافقين، وعلى جملتهم، ولقد ذهب إلى كل واحد من هذه الوجوه قوم من المفسرين. فأولها : قال ابن عباس ومجاهد : هم اليهود، وذلك لأنهم كانوا يأتسون بموافقة الرسول لهم في القبلة، وكانوا يظنون أن موافقته لهم في القبلة ربما تدعوه إلى أن يصير موافقاً لهم بالكلية، فلما تحول عن تلك القبلة استوحشوا من ذلك واغتموا وقالوا : قد عاد إلى طريقة آبائه، واشتاق إلى دينهم، ولو ثبت على قبلتنا لعلمنا أنه الرسول المنتظر المبشر به في التوراة، فقالوا : ما حكى الله عنهم في هذه الآية. وثالثها : قال ابن عباس والبراء بن عازب والحسن والأصم، إنهم مشركو العرب، وذلك لأنه عليه الصلاة والسلام كان متوجهاً إلى / بيت المقدس حين كان بمكة، والمشركون كانوا يتأذون منه بسبب ذلك فلما جاء إلى المدينة وتحول إلى الكعبة قالوا : أبى إلا الرجوع إلى موافقتنا، ولو ثبت عليه لكان أولى به. وثالثها : أنهم المنافقون وهو قول السدي، وهؤلاء إنما ذكروا ذلك استهزاء من حيث لا يتميز بعض الجهات عن بعض بخاصية معقولة تقتضي تحويل القبلة إليها، فكان هذا التحويل مجرد البعث والعمل بالرأي والشهوة، وإنما حملنا لفظ السفهاء على المنافقين لأن هذا الاسم مختص بهم، قال الله تعالى :
جزء : ٤ رقم الصفحة : ٧٨