أما قوله تعالى :﴿قُل لِّلَّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ ﴾ فاعلم أن هذا هو الجواب الأول عن تلك الشبهة، وتقريره أن الجهات كلها لله ملكاً وملكاً، فلا يستحق شيء منها لذاته أن يكون قبلة، بل إنما تصير قبلة لأن الله تعالى جعلها قبلة، وإذا كان الأمر كذلك فلا اعتراض عليه بالتحويل من جهة إلى جهة أخرى، فإن قيل : ما الحكمة أولاً في تعيين القبلة ؟
ثم ما الحكمة في تحويل القبلة من جهة إلى جهة ؟
قلنا : أما المسألة الأولى ففيها الخلاف الشديد بين أهل السنة والمعتزلة، أما أهل السنة فإنهم يقولون : لا يجب تعليل أحكام الله تعالى ألبتة، واحتجوا عليه بوجوه. أحدها : أن كل من فعل فعلاً لغرض، فإما أن يكون وجود ذلك الغرض أولى له من لا وجوده، وإما أن لا يكون كذلك، بل الوجود والعدم بالنسبة إليه سيان، فإن كان الأول، كان ناقصاً لذاته مستكملاً بغيره، وذلك على الله محال، وإن كان الثاني استحال أن يكون غرضاً ومقصوداً ومرجحاً فإن قيل : إنه وإن كان وجوده وعدمه بالنسبة إليه على السوية إلا أن وجوده لما كان أنفع للغير من عدمه، فالحكيم يفعله ليعود النفع إلى الغير قلنا : عود النفع إلى الغير ولا عوده إليه، هل هما بالنسبة إلى الله تعالى على السواء، أو ليس الأمر كذلك، وحينئذ يعود التقسيم. وثانيها : أن كل من فعل فعلاً لغرض فإما أن يكون قادراً على تحصيل ذلك الغرض من دون تلك الواسطة، أو لا يكون قادراً عليه. فإن كان الأول كان توسط تلك الواسطة عبثاً، وإن كان الثاني كان عجزاً وهو على الله محال. وثالثها : أنه تعالى إن فعل فعلاً لغرض فذلك الغرض وإن كان قديماً لزم من قدمه قدم الفعل وهو محال، وإن كان محدثاً توقف إحداثه على غرض آخر، ولزم الدور أو التسلسل وهو محال. ورابعها : أن تخصيص إحداث العالم بوقت معين دون ما قبله وما بعده إن كان لحكمة اختص بها ذلك الوقت دون ما قبله وما بعده كان طلب العلة في أنه لم حصلت تلك الحكمة في ذلك الوقت دون سائر الأوقات كطلب العلة في أنه لم حصل العالم في ذلك الوقت دون سائر الأوقات، فإن استغنى أحدهما عن المرجح فكذا الآخر، وإن افتقر فكذا الآخر وإن لم يتوقف ذلك على الحكمة فقد بطل توفيق فاعلية الله على الحكمة والغرض. وخامسها : ما سبق من الدلائل على أن جميع الكائنات من الخير والشر، والكفر والإيمان، والطعة والعصيان واقع بقدرة الله تعالى وإرادته، وذلك يبطل القول بالغرض، لأنه يستحيل أن يكون لله غرض يرجع إلى العبد في خلق الكفر فيه وتعذيبه عليه أبد الآباد. وسادسها : أن تعلق قدرة الله تعالى وإرادته بإيجاد الفعل المعين في / الأزل، إما أن يكون جائزاً أو وجباً، فإن كان جائزاً افتقر إلى مؤثر آخر ويلزم التسلسل، ولأنه يلزم صحة العدم على القديم، وإن كان واجباً فالواجب لا يعلل فثبت عندنا بهذه الوجوه أن تعليل أفعالي الله وأحكامه بالدواعي والأغراض محال، وإذا كان كذلك كانت فاعليته بمحض الإلهية والقدرة والنفاذ والاستيلاء، وهذا هو الذي دل عليه صريح قوله تعالى :
جزء : ٤ رقم الصفحة : ٧٨
﴿قُل لِّلَّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ ﴾ فإنه علل جواز النسخ بكونه مالكاً للمشرق والمغرب، والملك يرجع حاصله إلى القدرة/ ولم يعلل ذلك بالحكمة على ما تقوله المعتزلة، فثبت أن هذه الآية دالة بصريحها على قولنا ومذهبنا، أما المعتزلة فقد قالوا : لما دلت الدلائل على أنه تعالى حكيم، والحكيم لا يجوز أن تكون أفعاله خالية عن الأغراض، علمنا أن له سبحانه في كل أفعاله وأحكامه حكماً وأغراضاً، ثم إنها تارة تكون ظاهرة جلية لنا، وتارة مستورة خفية عنا، وتحويل القبلة من جهة إلى جهة أخرى يمكن أن يكون لمصالح خفية وأسرار مطوية عنا، وإذا كان الأمر كذلك : استحال الطعن بهذا التحويل في دين الإسلام.


الصفحة التالية
Icon