المسألة الرابعة : في الكلام في تلك الحكم على سبيل التفصيل، واعلم أن أمثال هذه المباحث لا تكون قطعية، بل غايتها أن تكون أموراً احتمالية أما تعيين القبلة في الصلاة فقد ذكروا فيه حكماً. أحدها : أن الله تعالى خلق في الإنسان قوة عقلية مدركة للمجردات والمعقولات، وقوة خيالية متصرفة في عالم الأجساد، وقلما تنفك القوة العقلية عن مقارنة القوة الخيالية ومصاحبتها، فإذا أراد الإنسان استحضار أمر عقلي مجرد وجب أن يضع له صورة خيالية يحسبها حتى تكون تلك الصورة الخيالية معينة على إدراك تلك المعاني العقلية، ولذلك فإن المهندس إذا أراد إدراك حكم من أحكام المقادير، وضع له صورة معينة وشكلاً معيناً ليصير الحس والخيال معينين للعقل على إدراك ذلك الحكم الكلي، ولما كان العبد الضعيف إذا وصل إلى مجلس الملك العظيم، فإنه لا بد وأن يستقبله بوجهه، وأن لا يكون معرضاً عنه، وأن يبالغ في الثناء عليه بلسانه، ويبالغ في الخدمة والتضرع له، فاستقبال القبلة في الصلاة يجري مجرى كونه مستقبلاً للملك لا معرضاً عنه، والقراءة والتسبيحات تجري مجرى الثناء عليه والركوع والسجود يجري مجرى الخدمة. وثانيها : أن المقصود من الصلاة حضور القلب وهذا الحضور لا يحصل إلا مع السكون وترك الالتفات والحركة، وهذا لا يتأتى إلا إذا بقي في جميع صلاته مستقبلاً لجهة واحدة على التعيين، فإذا اختص بعض الجهات بمزيد شرف في الأوهام، كان استقبال تلك الجهة أولى. وثالثها : أن الله تعالى يحب الموافقة والألفة بين المؤمنين، وقد ذكر المنة بها عليهم، حيث قال :﴿وَإِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَآءَ فَبَلَغْنَ﴾ (المائدة : ٧) إلى قوله :﴿إِخْوَانًا﴾
جزء : ٤ رقم الصفحة : ٧٨
ولو توجه كل واحد في صلاته إلى ناحية أخرى، لكان ذلك يوهم اختلافاً ظاهراً، فعين الله تعالى لهم جهة معلومة، وأمرهم جميعاً بالتوجه نحوها، ليحصل لهم الموافقة بسبب ذلك، وفيه إشارة إلى أن الله تعالى يحب الموافقة بين عباده في أعمال الخير. ورابعها : أن الله تعالى خص الكعبة بإضافتها إليه في قوله :﴿بَيْتِىَ﴾ وخص المؤمنين باضافتهم بصفة العبودية إليه، وكلتا / الإضافتين للتخصيص والتكريم فكأنه تعالى قال : يا مؤمن أنت عبدي، والكعبة بيتي، والصلاة خدمتي، فأقبل بوجهك في خدمتي إلى بيتي، وبقلبك إلي. وخامسها : قال بعض المشايخ : إن اليهود استقبلوا القبلة لأن النداء لموسى عليه السلام جاء منه، وذلك قوله :﴿وَمَا كُنتَ بِجَانِبِ الْغَرْبِىِّ﴾ (القصص : ٤٤) الآية، والنصارى استقبلوا المغرب، لأن جبريل عليه السلام إنما ذهب إلى مريم عليها السلام من جانب المشرق، لقوله تعالى :﴿وَاذْكُرْ فِى الْكِتَـابِ مَرْيَمَ إِذِ انتَبَذَتْ مِنْ أَهْلِهَا مَكَانًا شَرْقِيًّا﴾ (مريم : ١٦) والمؤمنون استقبلوا الكعبة لأنها قبلة خليل الله، ومولد حبيب الله، وهي موضع حرم الله، وكان بعضهم يقول : استقبلت النصارى مطلع الأنوار، وقد استقبلنا مطلع سيد الأنوار، وهو محمد صلى الله عليه وسلّم، فمن نوره خلقت الأنوار جميعاً. وسادسها : قالوا : الكعبة سرة الأرض ووسطها، فأمر الله تعالى جميع خلقه بالتوجه إلى وسط الأرض في صلاتهم/ وهو إشارة إلى أنه يجب العدل في كل شيء، ولأجله جعل وسط الأرض قبلة للخلق. وسابعها : أنه تعالى أظهر حبه لمحمد عليه الصلاة والسلام بواسطة أمره باستقبال الكعبة، وذلك لأنه عليه الصلاة والسلام كان يتمنى ذلك مدة لأجل مخالفة اليهود، فأنزل الله تعالى :﴿قَدْ نَرَى تَقَلُّبَ وَجْهِكَ فِي السَّمَآءِ ﴾ (البقرة : ١٤٤) الآية، وفي الشاهد إذا وصف واحد من الناس بمحبة آخر قالوا : فلان يحول القبلة لأجل فلان على جهة التمثيل، فالله تعالى قد حول القبلة لأجل حبيبه محمد عليه الصلاة والسلام على جهة التحقيق، وقال :﴿فَلَنُوَلِّيَنَّكَ قِبْلَةً تَرْضَـاهَا ﴾ (البقرة : ١٤٤) ولم يقل قبلة أرضاها، والإشارة فيه كأنه تعالى قال : يا محمد كل أحد يطلب رضاي وأنا أطلب رضاك في الدارين، أما في الدنيا فهذا الذي ذكرناه وأما في الآخرة فقوله تعالى :
جزء : ٤ رقم الصفحة : ٧٨


الصفحة التالية
Icon