﴿وَلَسَوْفَ يُعْطِيكَ رَبُّكَ فَتَرْضَى ﴾ (الضحى : ٥) وفيه إشارة أيضاً إلى شرف الفقراء :﴿فَتَطْرُدَهُمْ فَتَكُونَ مِنَ الظَّـالِمِينَ﴾ (الأنعام : ٥٢) وقال في الإعراض عن القبلة :﴿وَلَئِنِ اتَّبَعْتَ أَهْوَآءَهُم مِّنا بَعْدِ مَا جَآءَكَ مِنَ الْعِلْمِا إِنَّكَ إِذًا لَّمِنَ الظَّـالِمِينَ﴾ فكأنه تعالى قال : الكعبة قبلة وجهك، والفقراء قبلة رحمتي، فإعراضك عن قبلة وجهك، يوجب كونك ظالماً، فالأعراض عن قبلة رحمتي كيف يكون. وثامنها : العرش قبلة الحملة، والكرسي قبلة البررة، والبيت المعمور قبلة السفرة، والكعبة قبلة المؤمنين، والحق قبلة المتحيرين من المؤمنين، قال الله تعالى :﴿فَأَيْنَمَا تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ اللَّه ﴾ (البقرة : ١١٥) وثبت أن العرش مخلوق من النور، والكرسي من الدر، والبيت المعمور من الياقوت، والكعبة من جبال خمسة : من طور سينا، وطور زيتا، والجودي، ولبنان، وحراء، والإشارة فيه كأن الله تعالى يقول : إن كانت عليك ذنوب بمثقال هذه الجبال فأتيت الكعبة حاجاً أو توجهت نحوها مصلياً كفرتها عنك وغفرتها لك فهذا جملة الوجوه المذكورة في هذا الباب، والتحقيق هو الأول.
المسألة الخامسة : في حكمة تحويل القبلة من جهة إلى جهة، قد ذكرنا شبهة القوم في إنكار هذا التحويل، وهي أن الجهات لما كانت متساوية في جميع الصفات كان تحويل القبلة من جهة إلى جهة مجرد العبث، فلا يكون ذلك من فعل الحكيم.
والجواب عنه : أما على قول أهل السنة : إنه لا يجب تعليل أحكام الله تعالى بالحكم فالأمر ظاهر، وأما على قول المعتزلة فلهم طريقان. الأول : أنه لا يمتنع اختلاف المصالح بحسب اختلاف الجهات، وبيانه من وجوه. أحدها : أنه إذا ترسخ في أوهام بعض الناس أن هذه الجهات أشرف من غيرها بسبب أن هذا البيت بناه الخليل وعظمه، كان هذا الإنسان عند استقباله أشد تعظيماً وخشوعاً، وذلك مصلحة مطلوبة. وثانيها : أنه لما كان بناء هذا البيت سبباً لظهور دولة العرب كانت رغبتهم في تعظيمه أشد. وثالثها : أن اليهود لما كانوا يعيرون المسلمين عند استقبال بيت المقدس بأنه لولا أنا أرشدناكم إلى القبلة لما كنتم تعرفون القبلة، فصار ذلك سبباً لتشويش الخواطر، وذلك مخل بالخضوع والخشوع، فهذا يناسب الصرف عن تلك القبلة. ورابعها : أن الكعبة منشأ محمد صلى الله عليه وسلّم، فتعظيم الكعبة يقتضي تعظيم محمد عليه الصلاة والسلام، وذلك أمر مطلوب لأنه متى رسخ في قلبهم تعظيمه، كان قبولهم لأوامره ونواهيه في الدين والشريعة أسرع وأسهل، والمفضي إلى المطلوب مطلوب، فكان تحويل القبلة مناسباً. وخامسها : أن الله تعالى بين ذلك في قوله :﴿وَمَا جَعَلْنَا الْقِبْلَةَ الَّتِى كُنتَ عَلَيْهَآ إِلا لِنَعْلَمَ مَن يَتَّبِعُ الرَّسُولَ مِمَّن يَنقَلِبُ عَلَى عَقِبَيْه ﴾ (البقرة : ١٤٣) فأمرهم الله تعالى حين كانوا بمكة أن يتوجهوا إلى بيت المقدس ليتميزوا عن المشركين، فلما هاجروا إلى المدينة وبها اليهود، أمروا بالتوجه إلى الكعبة ليتميزوا عن اليهود.
جزء : ٤ رقم الصفحة : ٧٨
أما قوله :﴿يَهْدِى مَن يَشَآءُ إِلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ﴾ فالهداية قد تقدم القول فيها، قالت المعتزلة : إنما هي الدلالة الموصلة، والمعنى أنه تعالى يدل على ما هو للعبادة أصلح، والصراط المستقيم هو الذي يؤديهم إذا تمسكوا به إلى الجنة، قال أصحابنا : هذه الهداية إما أن يكون المراد منها الدعوة أو الدلالة أو تحصيل العلم فيه، والأولان باطلان، لأنهما عامان لجميع المكلفين فوجب حمله على الوجه الثالث وذلك يقتضي بأن الهداية والإضلال من الله تعالى.
جزء : ٤ رقم الصفحة : ٧٨
٨٣
قوله تعالى :﴿وَكَذَالِكَ جَعَلْنَـاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا لِّتَكُونُوا شُهَدَآءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيدًا ﴾.
اعلم أن في هذه الآية مسائل :


الصفحة التالية
Icon