والجواب عن قوله الآية متروكة الظاهر قلنا : لا نسلم فإن قوله :﴿وَكَذَالِكَ جَعَلْنَـاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا﴾ يقتضي أنه تعالى جعل كل واحد منهم عند اجتماعه مع غيره بهذه الصفة، وعندنا أنهم في كل أمر اجتمعوا عليه فإن كل واحد منهم يكون عدلاً في ذلك الأمر، بل إذا اختلفوا فعند ذلك قد يفعلون القبيح، وإنما قلنا إن هذا خطاب معهم حال الاجتماع، لأن قوله :﴿جَعَلْنَـاكُمْ﴾ خطاب لمجموعهم لا لكل واحد منهم وحده، على أن وإن سلمنا أن هذا يقتضي كون كل واحد منهم عدلاً لكنا نقول ترك العمل به في حق البعض لدليل قام عليه فوجب أن يبقى معمولاً به في حق الباقي وهذا معنى ما قال العلماء : ليس المراد من الآية أن كلهم كذلك، بل المراد أنه لا بد وأن يوجد فيما بينهم من يكون بهذه الصفة، فإذا كنا لا نعلم بأعيانهم افتقرنا إلى اجتماع جماعتهم على القول والفعل، لكي يدخل المعتبرون في جملتهم، مثاله : أن الرسول عليه الصلاة والسلام إذا قال إن واحداً / من أولاد فلان لا بد وإن يكون مصيباً في الرأي والتدبير فإذا لم نعلمه بعينه ووجدنا أولاده مجتمعين على رأي علمناه حقاً لأنه لا بد وأن يوجد فيهم ذلك المحق، فأما إذا اجتمعوا سوى الواحد على رأي لم نحكم بكونه حقاً لتجويز أن يكون الصواب مع ذلك الواحد الذي خالف، ولهذا قال كثير من العلماء : إنا لو ميزنا في الأمة من كان مصيباً عمن كان مخطئاً كانت الحجة قائمة في قول المصيب ولم نعتبر ألبتة بقول المخطىء قوله : لو كان المراد من كونهم وسطاً هو المراد من عدالتهم، لزم أن يكون فعل العبد خلقاً لله تعالى قلنا : هذا مذهبنا على ما تقدم بيانه، قوله : لم قلتم أن إخبار الله تعالى عن عدالتهم وخيريتهم يقتضي اجتنابهم عن الصغائر ؟
قلنا : خبر الله تعالى صدق، والخبر الصدق يقتضي حصول المخبر عنه، وفعل الصغيرة ليس بخير، فالجمع بينهما متناقض، ولقائل أن يقول : الإخبار عن الشخص بأنه خير أعم من الإخبار عنه بأنه خير في جميع الأمور، أو في بعض الأمور، ولذلك فإنه يصح تقسيمه إلى هذين القسمين فيقال : الخير إما أن يكون خيراً في بعض الأمور دون البعض أو في كل الأمور، ومورد التقسيم مشترك بين القسمين، فمن كان خيراً من بعض الوجوه دون البعض، يصدق عليه أنه خير، فإذن إخبار الله تعالى عن خيرية الأمة لا يقتضي إخباره تعالى عن خيريتهم في كل الأمور، فثبت أن هذا لا ينافي إقدامهم على الكبائر فضلاً عن الصغائر، وكنا قد نصرنا هذه الدلالة في أصول الفقه إلا أن هذا السؤال وارد عليها، أما السؤال الآخر فقد أجيب عنه بأن قوله :
جزء : ٤ رقم الصفحة : ٨٣
﴿وَكَذَالِكَ جَعَلْنَـاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا﴾ خطاب لجميع الأمة أولها وآخرها، من كان منهم موجوداً وقت نزول هذه الآية ومن جاء بعدهم إلى قيام الساعة، كما أن قوله :﴿كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصَاصُ﴾ (البقرة : ١٧٨)، ﴿كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ﴾ (البقرة : ١٨٣) يتناول الكل، ولا يختص بالموجودين في ذلك الوقت، وكذلك سائر تكاليف الله تعالى وأوامره وزواجره خطاب لجميع الأمة فإن قيل : لو كان الأمر كذلك لكان هذا خطاباً لجميع من يوجد إلى قيام الساعة، فإنما حكم لجماعتهم بالعدالة فمن أين حكمت لأهل كل عصر بالعدالة حتى جعلتهم حجة على من بعدهم ؟
قلنا : لأنه تعالى لما جعلهم شهداء على الناس، فلو اعتبرنا أول الأمة وآخرها بمجموعها في كونها حجة على غيرها لزالت الفائدة إذ لم يبق بعد انقضائها من تكون الأمة حجة عليه، فعلمنا أن المراد به أهل كل عصر، ويجوز تسمية أهل العصر الواحد بالأمة، فإن الأمة اسم للجماعة التي تؤم جهة واحدة، ولا شك أن أهل كل عصر كذلك ولأنه تعالى قال :﴿أُمَّةً وَسَطًا﴾ فعبر عنهم بلفظ النكرة ولا شك أن هذا يتناول أهل كل عصر.
المسألة الخامسة : اختلف الناس في أن الشهادة المذكورة في قوله تعالى :﴿لِّتَكُونُوا شُهَدَآءَ عَلَى النَّاسِ﴾ تحصل في الآخرة أو في الدنيا. فالقول الأول : إنها تقع في الآخرة، والذاهبون إلى هذا القول لهم وجهان. الأول : وهو الذي عليه الأكثرون : أن هذه الأمة تشهد للأنبياء على أنهم الذين يكذبونهم، روي أن الأمم يجحدون تبليغ الأنبياء، فيطالب الله تعالى الأنبياء بالبينة على / أنهم قد بلغوا وهو أعلم، فيؤتى بأمة محمد صلى الله عليه وسلّم الله عليه وسلم فيشهدون فتقول الأمم من أين عرفتم فيقولون : علمنا ذلك بإخبار الله تعالى في كتابه الناطق على لسان نبيه الصادق، فيؤتى بمحمد عليه الصلاة والسلام، فيسأل عن حال أمته فيزكيهم ويشهد بعدالتهم وذلك قوله :﴿فَكَيْفَ إِذَا جِئْنَا مِن كُلِّ أُمَّةا بِشَهِيدٍ وَجِئْنَا بِكَ عَلَى هَـا ؤُلاءِ شَهِيدًا﴾ (النساء : ٤١) وقد طعن القاضي في هذه الرواية من وجوه :


الصفحة التالية
Icon