﴿إِلا لِنَعْلَمَ﴾ معناه : إلا لنرى، ومجاز هذا أن العرب تضع العلم مكان الرؤية، والرؤية مكان العلم كقوله :﴿أَلَمْ تَرَ كَيْفَ﴾ (الفجر : ٦) (الفيل : ١) (إبراهيم : ١٩) ورأيت، وعلمت، وشهدت، ألفاظ متعاقبة. وخامسها : ما ذهب إليه الفراء : وهو أن حدوث العلم في هذه الآية راجع إلى المخاطبين، ومثاله أن جاهلاً وعاقلاً اجتمعا، فيقول الجاهل : الحطب يحرق النار، ويقول العاقل : بل النار تحرق الحطب، وسنجمع بينهما لنعلم أيهما يحرق صاحبه معناه : لنعلم أينا الجاهل، فكذلك قوله :﴿إِلا لِنَعْلَمَ﴾ إلا لتعلموا والغرض من هذا الجنس من الكلام : الاستمالة والرفق في الخطاب، كقوله :﴿وَإِنَّآ أَوْ إِيَّاكُمْ لَعَلَى هُدًى﴾ (سبأ : ٢٤) فأضاف الكلام الموهم للشك إلى نفسه ترقيقاً للخطاب ورفقاً بالمخاطب، فكذا قوله :﴿إِلا لِنَعْلَمَ﴾. وسادسها : نعاملكم معاملة المختبر الذي كأنه لا يعلم، إذ العدل يوجب ذلك. وسابعها : أن العلم صلة زائدة، فقوله ؛ ﴿إِلا لِنَعْلَمَ مَن يَتَّبِعُ الرَّسُولَ مِمَّن يَنقَلِبُ عَلَى عَقِبَيْه ﴾ معناه : إلا ليحصل اتباع المتبعين، وانقلاب المنقلبين، ونظيره قولك في الشيء الذي تنفيه عن نفسك : ما علم الله هذا مني أي ما كان هذا مني والمعنى : أنه لو كان لعلمه الله.
المسألة الثالثة : اختلفوا في أن هذه المحنة حصلت بسبب تعيين القبلة أو بسبب تحويلها، فمن الناس من قال : إنما حصلت بسبب تعيين القبلة لأنه عليه الصلاة والسلام كان يصلي إلى الكعبة/ فلما جاء المدينة صلى إلى بيت المقدس، فشق ذلك على العرب من حيث إنه ترك قبلتهم، ثم إنه لما حوله مرة أخرى إلى الكعبة شق ذلك على اليهود من حيث إنه ترك قبلتهم، وأما الأكثرون من أهل التحقيق قالوا : هذه المحنة إنما حصلت بسبب التحويل فإنهم قالوا : إن محمداً صلى الله عليه وسلّم لو كان على يقين من أمره لما تغير رأيه، روى القفال عن ابن جريح أنه قال : بلغني أنه رجع ناس ممن أسلم، وقالوا مرة ههنا ومرة ههنا، وقال السدي : لما توجه النبي عليه الصلاة والسلام / نحو المسجد الحرام اختلف الناس فقال المنافقون : ما بالهم كانوا على قبلة ثم تركوها، وقال المسلمون : لسنا نعلم حال إخواننا الذين ماتوا وهم يصلون نحو بيت المقدس، وقال آخرون : اشتاق إلى بلد أبيه ومولده، وقال المشركون : تحير في دينه، واعلم أن هذا القول الأخير أولى لأن الشبهة في أمر النسخ أعظم من الشبهة الحاصلة بسبب تعيين القبلة، وقد وصفها الله تعالى بالكبيرة فقال :﴿وَإِن كَانَتْ لَكَبِيرَةً إِلا عَلَى الَّذِينَ هَدَى اللَّه ﴾ فكان حمله عليه أولى.
جزء : ٤ رقم الصفحة : ٨٣
المسألة الرابعة : قوله :﴿مِمَّن يَنقَلِبُ عَلَى عَقِبَيْه ﴾ استعارة ومعناه : من يكفر بالله ورسوله، ووجه الاستعارة أن المنقلب على عقبيه قد ترك ما بين يديه وأدبر عنه، فلما تركوا الإيمان والدلائل صاروا بمنزلة المدبر عما بين يديه فوصفوا بذلك كما قال تعالى :﴿ثُمَّ أَدْبَرَ وَاسْتَكْبَرَ﴾ (المدثر : ٢٣) وكما قال :﴿كَذَّبَ وَتَوَلَّى ﴾ (طه : ٤٨) وكل ذلك تشبيه.
أما قوله تعالى :﴿وَإِن كَانَتْ﴾ ففيه مسائل :
المسألة الأولى :(إن) المكسورة الخفيفة، معناها على أربعة أوجه : جزاء، ومخففة من الثقيلة، وجحد، وزائدة، أما الجزاء فهي تفيد ربط إحدى الجملتين بالأخرى فالمستلزم هو الشرط واللازم هو الجزاء كقولك : إن جئتني أكرمتك، وأما الثانية : وهي المخففة من الثقيلة فهي تفيد توكيد المعنى في الجملة بمنزلة ﴿ءَانٍ﴾ المشددة كقولك : إن زيداً لقائم، قال الله تعالى :﴿إِن كُلُّ نَفْسٍ لَّمَّا عَلَيْهَا حَافِظٌ﴾ (الطارق : ٤) وقال :﴿إِن كَانَ وَعْدُ رَبِّنَا لَمَفْعُولا﴾ (الإسراء : ١٠٨) ومثله في القرآن كثير، والغرض في تخفيفها إيلاؤها ما لم يجز أن يليها من الفعل، وإنما لزمت اللام هذه المخففة للعوض عما حذف منها، والفرق بينها وبين التي للجحد في قوله تعالى :﴿إِنِ الْكَـافِرُونَ إِلا فِى غُرُورٍ﴾ (الملك : ٢٠) وقوله :﴿إِنْ أَتَّبِعُ إِلا مَا يُوحَى ا إِلَىَّ ﴾ (الأحقاف : ٩) إذ كانت كل واحدة منهما يليها الإسم والفعل جميعاً كما وصفنا، وأما الثالثة : وهي التي للجحد، كقوله :﴿إِنِ الْحُكْمُ إِلا لِلَّه ﴾ (الأنعام : ٥٧) وقال :﴿إِن تَتَّبِعُونَ إِلا الظَّنَّ﴾ (الأنعام : ١٤٨) وقال :﴿وَلَـاـاِن زَالَتَآ إِنْ أَمْسَكَهُمَا﴾ (فاطر : ٤١) أي ما يمسكهما، وأما الرابعة وهي الزائدة فكقولك : ما إن رأيت زيداً.
إذا عرفت هذا فنقول :﴿ءَانٍ﴾ في قوله :﴿وَإِن كَانَتْ لَكَبِيرَةً﴾ (البقرة : ١٤٣) هي المخففة التي تلزمها اللام، والغرض منها توكيد المعنى في الجملة.
جزء : ٤ رقم الصفحة : ٨٣
المسألة الثانية : الضمير في قوله :﴿كَانَتْ﴾ إلى أي شيء يعود ؟
فيه وجهان :


الصفحة التالية
Icon