الأول : أنه يعود إلى القبلة لأنه لا بد له من مذكور سابق وما ذاك إلا القبلة في قوله :﴿وَمَا جَعَلْنَا الْقِبْلَةَ الَّتِى كُنتَ عَلَيْهَآ﴾ (البقرة : ١٤٣). الثاني : أنه عائد إلى ما دل عليه الكلام السابق وهي مفارقة القبلة، والتأنيث للتولية لأنه قال :﴿مَا وَلَّـاهُمْ عَن قِبْلَتِهِمُ الَّتِى كَانُوا عَلَيْهَا ﴾ ثم قال عطفاً على هذا :﴿وَإِن كَانَتْ لَكَبِيرَةً﴾ أي وإن كانت التولية لأن قوله :﴿وَمَا لَهُم﴾ يدل على التولية كما قيل في قوله تعالى :﴿وَلا تَأْكُلُوا مِمَّا لَمْ يُذْكَرِ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ وَإِنَّه لَفِسْقٌ ﴾ (الأنعام : ١٢١) ويحتمل أن يكون المعنى : وإن كانت هذه الفعلة، نظيره قوله فيها ونعمت، واعلم أن هذا البحث متفرع على المسألة التي قدمناها وهي أن الامتحان / والابتلاء حصل بنفس القبلة، أو بتحويل القبلة، وقد بينا أن الثاني أولى لأن الإشكال الحاصل بسبب النسخ أقوى من الإشكال الحاصل بسبب تلك الجهات، ولهذا وصفه الله تعالى بالكبيرة في قوله :﴿وَإِن كَانَتْ لَكَبِيرَةً﴾.
أما قوله تعالى :﴿لَكَبِيرَةٌ﴾ فالمعنى : لثقيلة شاقة مستنكرة كقوله :﴿كَبُرَتْ كَلِمَةً تَخْرُجُ مِنْ أَفْوَاهِهِمْ ﴾ (الكهف : ٥) أي : عظمت الفرية بذلك، وقال الله تعالى :﴿سُبْحَـانَكَ هَـاذَا بُهْتَـانٌ عَظِيمٌ﴾ (النور : ١٦) وقال :﴿إِنَّ ذَالِكُمْ كَانَ عِندَ اللَّهِ عَظِيمًا﴾ (الأحزاب : ٥٣) ثم إنا إن قلنا الامتحان وقع بنفس القبلة، قلنا : إن تركها ثقيل عليهم، لأن ذلك يقتضي ترك الألف والعادة، والإعراض عن طريقة الآباء والأسلاف وإن قلنا : الامتحان وقع بتحريف القبلة قلنا : إنها لثقيلة من حيث أن الإنسان لا يمكنه أن يعرف أن ذلك حق إلا بعد أن عرف مسألة النسخ وتخلص عما فيها من السؤالات، وذلك أمر ثقيل صعب إلا على من هداه الله تعالى حتى عرف أنه لا يستنكر نقل القبلة من جهة إلى جهة كما لا يستنكر نقلة إياهم من حال إلى حال في الصحة والسقم والغنى والفقر، فمن اهتدى لهذا النظر ازداد بصره، ومن سفه واتبع الهوى وظواهر الأمور ثقلت عليه هذه المسألة.
جزء : ٤ رقم الصفحة : ٨٣
أما قوله :﴿إِلا عَلَى الَّذِينَ هَدَى اللَّه ﴾ فاحتج الأصحاب بهذه الآية في مسألة خلق الأعمال فقالوا : المراد من الهداية إما الدعوة أو وضع الدلالة أو خلق المعرفة، والوجهان الأولان ههنا باطلان، وذلك لأنه تعالى حكم بكونها ثقيلة على الكل إلا على الذين هدى الله فوجب أن يقال : إن الذي هداه الله لا يثقل ذلك عليه، والهداية بمعنى الدعوة، ووضع الدلائل عامة في حق الكل، فوجب أن لا يثقل ذلك على أحد من الكفار، فلما ثقل عليهم علمنا أن المراد من الهداية ههنا خلق المعرفة والعلم وهو المطلوب، قالت المعتزلة : الجواب عنه من ثلاثة أوجه، أحدها : أن الله تعالى ذكرهم على طريق المدح فخصهم بذلك. وثانيها : أراد به الاهتداء. وثالثها : أنهم الذين انتفعوا بهدى الله فغيرهم كأنه لم يعتد بهم.
والجواب عن الكل : أنه ترك للظاهر فيكون على خلاف الأصل والله أعلم.
أما قوله تعالى :﴿وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُضِيعَ إِيمَـانَكُمْ ﴾ ففيه مسائل :
المسألة الأولى : أن رجالاً من المسلمين كأبي أمامة، وسعد بن زرارة، والبراء بن عازب، والبراء بن معرور، وغيرهم ماتوا على القبلة الأولى فقال عشائرهم : يا رسول الله توفى إخواننا على القبلة الأولى فكيف حالهم ؟
فأنزل الله تعالى هذه الآية.
واعلم أنه لا بد من هذا السبب، وإلا لم يتصل بعض الكلام ببعض، ووجه تقرير الإشكال أن الذين لم يجوزوا النسخ إلا مع البداء يقولون : إنه لما تغير الحكم وجب أن يكون الحكم مفسدة وباطلاً فوقع في قلبهم بناء على هذا السؤال أن تلك الصلوات التي أتوا بها متوجهين إلى بيت المقدس كانت ضائعة، ثم إن الله تعالى أجاب عن هذا الإشكال وبين أن النسخ نقل من مصلحة إلى مصلحة / ومن تكليف إلى تكليف، والأول كالثاني في أن القائم به متمسك بالدين، وأن من هذا حاله فإنه لا يضيع أجره ونظيره : ما سألوا بعد تحريم الخمر عمن مات وكان يشربها، فأنزل الله تعالى :﴿لَيْسَ عَلَى الَّذِينَ ءَامَنُوا وَعَمِلُوا الصَّـالِحَـاتِ جُنَاحٌ﴾ (المائدة : ٩٣) فعرفهم الله تعالى أنه لا جناح عليهم فيما مضى لما كان ذلك بإباحة الله تعالى، فإن قيل : إذا كان الشك إنما تولد من تجويز البداء على الله تعالى فكيف يليق ذلك بالصحابة ؟
قلنا : الجواب من وجوه. أحدها : أن ذلك الشك وقع لمنافق فذكر الله تعالى ذلك ليذكره المسلمون جواباً لسؤال ذلك المنافق. وثانيها : لعلهم اعتقدوا أن الصلاة إلى الكعبة أفضل فقالوا : ليت إخواننا ممن مات أدرك ذلك، فذكر الله تعالى هذا الكلام جواباً عن ذلك. وثالثها : لعله تعالى ذكر هذا الكلام ليكون دفعاً لذلك السؤال لو خطر ببالهم.
جزء : ٤ رقم الصفحة : ٨٣