القول الثاني : وهو قول أبي مسلم الأصفهاني، قالوا : لولا الأخبار التي دلت على هذا القول وإلا فلفظ الآية يحتمل وجهاً آخر، وهو أنه يحتمل أنه عليه السلام إنما كان يقلب وجهه في أول مقدمة المدينة، فقد روي أنه عليه السلام كان إذا صلى بمكة جعل الكعبة بينه وبين بيت المقدس، وهذه صلاة إلى الكعبة فلما هاجر لم يعلم أين يتوجه فانتظر أمر الله تعالى حتى نزل قوله :﴿فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ ﴾.
المسألة الثانية : اختلفوا في صلاته إلى بيت المقدس، فقال قوم : كان بمكة يصلي إلى الكعبة فلما صار إلى المدينة أمر بالتوجه إلى بيت المقدس سبعة عشر شهراً، وقال قوم : بل كان بمكة يصلي إلى بيت المقدس، إلا أنه يجعل الكعبة بينه وبينها : وقال قوم : بل كان يصلي إلى بيت المقدس فقط وبالمدينة أولاً سبعة عشر شهراً، ثم أمره الله تعالى بالتوجه إلى الكعبة لما فيه من الصلاح.
المسألة الثالثة : اختلفوا في توجه النبي صلى الله عليه وسلّم إلى بيت المقدس هل كان فرضاً / لا يجوز غيره، أو كان النبي صلى الله عليه وسلّم مخيراً في توجهه إليه وإلى غيره، فقال الربيع بن أنس : قد كان مخيراً في ذلك وقال ابن عباس : كان التوجه إليه فرضاً محققاً بلا تخيير.
جزء : ٤ رقم الصفحة : ٩٤
واعلم أنه على أي الوجهين كان قد صار منسوخاً، واحتج الذاهبون إلى القول الأول بالقرآن والخبر، أما القرآن فقوله تعالى :﴿وَلِلَّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُا فَأَيْنَمَا تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ اللَّه ﴾ (البقرة : ١١٥) وذلك يقتضي كونه مخيراً في التوجه إلى أي جهة شاء، وأما الخبر فما روى أبو بكر الرازي في كتاب "أحكام القرآن" : أن نفراً قصدوا الرسول عليه الصلاة والسلام من المدينة إلى مكة للبيعة قبل الهجرة، وكان فيهم البراء بن معرور، فتوجه بصلاته إلى الكعبة في طريقه، وأبى الآخرون وقالوا : إنه عليه السلام يتوجه إلى بيت المقدس، فلما قدموا مكة سألوا النبي صلى الله عليه وسلّم، فقال له : قد كنت على قبلة ـ يعني بيت المقدس ـ لو ثبت عليها أجزأك ولم يأمره باستئناف الصلاة فدل على أنهم قد كانوا مخيرين، واحتج الذاهبون إلى القول الثاني بأنه تعالى قال :﴿فَلَنُوَلِّيَنَّكَ قِبْلَةً تَرْضَـاهَا ﴾ فدل على أنه عليه السلام ما كان يرتضي القبلة الأولى، فلو كان مخيراً بينها وبين الكعبة ما كان يتوجه إليها فحيث توجه إليها مع أنه كان ما يرتضيها علمنا أنه ما كان مخيراً بينها وبين الكعبة.
المسألة الرابعة : المشهور أن التوجه إلى بيت المقدس إنما صار منسوخاً بالأمر بالتوجه إلى الكعبة، ومن الناس من قال : التوجه إلى بيت المقدس صار منسوخاً بقوله تعالى :﴿وَلِلَّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُا فَأَيْنَمَا تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ اللَّه ﴾ ثم إن ذلك صار منسوخاً بقوله :﴿فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ ﴾ واحتجوا عليه بالقرآن والأثر، أما القرآن فهو أنه تعالى ذكر أولاً قوله :﴿وَلِلَّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُا فَأَيْنَمَا تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ اللَّه ﴾ ثم ذكر بعد :﴿سَيَقُولُ السُّفَهَآءُ مِنَ النَّاسِ مَا وَلَّـاهُمْ عَن قِبْلَتِهِمُ الَّتِى كَانُوا عَلَيْهَا ﴾ (البقرة : ١٤٢) ثم ذكر بعده :﴿فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ ﴾ وهذا الترتيب يقتضي صحة المذهب الذي قلناه بأن التوجه إلى بيت المقدس صار منسوخاً بقوله :﴿فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ ﴾ فلزم أن يكون قوله تعالى :﴿سَيَقُولُ السُّفَهَآءُ مِنَ النَّاسِ﴾ متأخراً في النزول والدرجة عن قوله تعالى :﴿فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ ﴾ فحينئذ يكون تقديمه عليه في الترتيب على خلاف الأصل، فثبت ما قلناه، وأما الأثر فما روي عن ابن عباس أمر القبلة أول ما نسخ من القرآن، والأمر بالتوجه إلى بيت المقدس غير مذكور في القرآن، إنما المذكور في القرآن :﴿وَلِلَّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُا فَأَيْنَمَا تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ اللَّه ﴾ فوجب أن يكون قوله :﴿فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ ﴾ ناسخاً لذلك، لا للأمر بالتوجه إلى بيت المقدس.
جزء : ٤ رقم الصفحة : ٩٤
أما قوله :﴿فَلَنُوَلِّيَنَّكَ قِبْلَةً تَرْضَـاهَا ﴾ ففيه مسائل :
المسألة الأولى :﴿فَلَنُوَلِّيَنَّكَ﴾ فلنعطينك ولنمكننك من استقبالها من قولك وليته كذا، إذا جعلته والياً له، أو فلنجعلنك تلي سمتها دون سميت بيت المقدس.