والجواب عن الثاني : وهو قول ابن مسعود : حافظوا على التنوير بالفجر، فجوابه هذا الذي قررناه لأن التنوير بالفجر إنما يحصل في أول الوقت، فأما عند امتلاء العالم من النور فإنه لا يسمى ذلك فجراً، وأما سائر الوجوه فهي معارضة ببعض ما قدمناه والله أعلم.
أما قوله تعالى :﴿أَيْنَ مَا تَكُونُوا يَأْتِ بِكُمُ اللَّهُ جَمِيعًا ﴾ فهو وعد لأهل الطاعة، ووعيد لأهل المعصية، كأنه تعالى قال : استبقوا أيها المحققون والعارفون بالنبوة والشريعة الخيرات وتحملوا فيها / المشاق لتصلوا يوم القيامة إلى مالكم عند الله من أنواع الكرامة والزلفى، ثم إنه سبحانه حقق بقوله :﴿إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَىْءٍ قَدِيرٌ﴾ وذلك لأن الإعادة في نفسها ممكنة وهو قادر على جميع الممكنات، فوجب أن يكون قادراً على الإعادة، وأما المسائل المستبنطة من هذه الآية، فقد ذكرناها في قوله تعالى :﴿وَلَوْ شَآءَ اللَّهُ لَذَهَبَ بِسَمْعِهِمْ وَأَبْصَـارِهِم إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَىْءٍ قَدِيرٌ﴾ (البقرة : ٢٠).
جزء : ٤ رقم الصفحة : ١١٣
١١٨
اعلم أن أول ما في هذه الآية من البحث أن الله تعالى قال قبل هذه الآيات :﴿قَدْ نَرَى تَقَلُّبَ وَجْهِكَ فِي السَّمَآءِا فَلَنُوَلِّيَنَّكَ قِبْلَةً تَرْضَـاهَا فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِا وَحَيْثُ مَا كُنتُمْ فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ﴾ (البقرة : ١٤٤) وذكر ههنا ثانياً قوله تعالى :﴿وَمِنْ حَيْثُ خَرَجْتَ فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِا وَإِنَّه لَلْحَقُّ مِن رَّبِّكَا وَمَا اللَّهُ بِغَـافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ﴾ وذكر ثالثاً قوله :﴿وَمِنْ حَيْثُ خَرَجْتَ فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِا وَحَيْثُ مَا كُنتُمْ فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ لِئَلا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَيْكُمْ حُجَّةٌ﴾ فهل في هذا التكرار فائدة أم لا ؟
وللعلماء فيه أقوال. أحدها : أن الأحوال ثلاثة، أولها : أن يكون الإنسان في المسجد الحرام. وثانيها : أن يخرج عن المسجد الحرام ويكون في البلد. وثالثها : أن يخرج عن البلد إلى أقطار الأرض، فالآية الأولى محمولة على الحالة الأولى، والثانية على الثانية، والثالثة على الثالثة، لأنه قد كان يتوهم أن للقرب حرمة لا تثبت فيها للعبد، فلأجل إزالة هذا الوهم كرر الله تعالى هذه الآيات.
والجواب الثاني : أنه سبحانه إنما أعاد ذلك ثلاث مرات لأنه علق بها كل مرة فائدة زائدة أما / في المرة الأولى فبين أن أهل الكتاب يعلمون أن أمر نبوة محمد صلى الله عليه وسلّم وأمر هذه القبلة حق، لأنهم شاهدوا ذلك في التوراة والإنجيل، وأما في المرة الثانية فبين أنه تعالى يشهد أن ذلك حق، وشهادة الله بكونه حقاً مغايرة لعلم أهل الكتاب بكونه حقاً، وأما في المرة الثالثة فبين أنه إنما فعل ذلك لئلا يكون للناس عليكم حجة، فلما اختلفت هذه الفوائد حسنت إعادتها لأجل أن يترتب في كل واحدة من المرات واحدة من هذه الفوائد، ونظيره قوله تعالى :﴿فَوَيْلٌ لِّلَّذِينَ يَكْتُبُونَ الْكِتَـابَ بِأَيْدِيهِمْ ثُمَّ يَقُولُونَ هَـاذَا مِنْ عِندِ اللَّهِ لِيَشْتَرُوا بِه ثَمَنًا قَلِيلا فَوَيْلٌ لَّهُم مِّمَّا كَتَبَتْ﴾.
جزء : ٤ رقم الصفحة : ١١٨
والجواب الثالث : أنه تعالى قال في الآية الأولى :﴿فَلَنُوَلِّيَنَّكَ قِبْلَةً تَرْضَـاهَا فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِا وَحَيْثُ مَا كُنتُمْ فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ شَطْرَه ﴾ فكان ربما يخطر ببال جاهل أنه تعالى إنما فعل ذلك طلباً لرضا محمد صلى الله عليه وسلّم لأنه قال :﴿فَلَنُوَلِّيَنَّكَ قِبْلَةً تَرْضَـاهَا ﴾ فأزال الله تعالى هذا الوهم الفاسد بقوله :﴿وَمِنْ حَيْثُ خَرَجْتَ فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِا وَإِنَّه لَلْحَقُّ مِن رَّبِّكَ ﴾ أي نحن ما حولناك إلى هذه القبلة بمجرد رضاك، بل لأجل أن هذا التحويل هو الحق الذي لا محيد عنه فاستقبالها ليس لأجل الهوى والميل كقبلة اليهود المنسوخة التي إنما يقيمون عليها بمجرد الهوى والميل، ثم أنه تعالى قال ثالثاً :﴿وَمِنْ حَيْثُ خَرَجْتَ فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِا وَحَيْثُ مَا كُنتُمْ فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ﴾ والمراد دوموا على هذه القبلة في جميع الأزمنة والأوقات/ ولا تولوا فيصير ذلك التولي سبباً للطعن في دينكم، والحاصل أن الآية السالفة أمر بالدوام في جميع الأمكنة والثانية أمر بالدوام في جميع الأزمنة والأمكنة، والثالثة أمر بالدوام في جميع الأزمنة وإشعار بأن هذا لا يصير منسوخاً ألبتة.