واعلم أن الذي حكيناه عن أبي مسلم رحمه الله من التشكك في صلاة الرسول وصلاة أمته إلى بيت المقدس، فإن كان مراده أن ألفاظ القرآن لا تدل على ذلك فقد أصاب، لأن شيئاً من ألفاظ القرآن لا دلالة فيه على ذلك البتة على ما بيناه، وإن أراد به إنكاره أصلاً، فبعيد، لأن الأخبار في ذلك قريبة من المتواتر، ولأبي مسلم رحمه الله أن يمنع التواتر، وعند ذلك يقول : لا يصح التعويل في القطع بوقوع النسخ في شرعنا على خبر الواحد والله أعلم.
جزء : ٤ رقم الصفحة : ١١٨
١٢٢
اعلم أنا قد بينا أن الله تعالى استدل على صحة دين محمد عليه الصلاة والسلام بوجوه، بعضها إلزامية، وهو أن هذا الدين دين إبراهيم فوجب قبوله، وهو المراد بقوله :﴿وَمَن يَرْغَبُ عَن مِّلَّةِ إِبْرَاه مَ إِلا مَن سَفِهَ نَفْسَه ﴾ (البقرة : ١٣٠) وبعضها برهانية وقوله :﴿قُولُوا ءَامَنَّا بِاللَّهِ وَمَآ أُنزِلَ إِلَيْنَا وَمَآ أُنزِلَ إِلَى ا إِبْرَاه مَ وَإِسْمَـاعِيلَ وَإِسْحَـاقَ وَيَعْقُوبَ وَالاسْبَاطِ﴾ (البقرة : ١٣٦) ثم إنه سبحانه وتعالى عقب هذا الإستدلال بحكاية / شبهتين لهم. إحداهما : قوله :﴿وَقَالُوا كُونُوا هُودًا أَوْ نَصَـارَى تَهْتَدُوا ﴾ (البقرة : ١٣٥). والثانية : استدلالهم بإنكار النسخ على القدح في هذه الشريعة، وهو قول :﴿سَيَقُولُ السُّفَهَآءُ مِنَ النَّاسِ مَا وَلَّـاهُمْ عَن قِبْلَتِهِمُ الَّتِى كَانُوا عَلَيْهَا ﴾ (البقرة : ١٤٢) وأطنب الله تعالى في الجواب عن الشبهة وبالحق فعل ذلك، لأن أعظم الشبهة لليهود في إنكار نبوة محمد عليه الصلاة والسلام النسخ، فلا جرم أطنب الله تعالى في الجواب عن هذه الشبهة، وختم ذلك الجواب بقوله :﴿وَلاتِمَّ نِعْمَتِى عَلَيْكُمْ﴾ فصار هذا الكلام مع ما فيه من الجواب عن الشبهة تنبيهاً على عظيم نعم الله تعالى، ولا شك أن ذلك أشد استمالة لحصول العز والشرف في الدنيا، والتخلص في الذل والمهانة يكون مرغوباً فيه، وعند اجتماع الأمرين فقد بلغ النهاية في هذا الباب.
أما قوله :﴿كَمَآ أَرْسَلْنَا﴾ ففيه مسائل :
جزء : ٤ رقم الصفحة : ١٢٢
المسألة الأولى : هذا الكاف إما أن يتعلق بما قبله أو بما بعده، فإن قلنا : إنه متعلق بما قبله ففيه وجوه. الأول : أنه راجع إلى قوله :﴿وَلاتِمَّ نِعْمَتِى عَلَيْكُمْ﴾ (البقرة : ١٥٠) أي ولأتم نعمتي عليكم في الدنيا بحصول الشرف، وفي الآخرة بالفوز بالثواب، كما أتممتها عليكم في الدنيا بإرسال الرسول. الثاني : أن إبراهيم عليه السلام قال :﴿رَبَّنَا وَابْعَثْ فِيهِمْ رَسُولا مِّنْهُمْ يَتْلُوا عَلَيْهِمْ ءَايَـاتِكَ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَـابَ وَالْحِكْمَةَ وَيُزَكِّيهِمْ ﴾ (البقرة : ١٢٩) وقال أيضاً :﴿وَمِن ذُرِّيَّتِنَآ أُمَّةً مُّسْلِمَةً لَّكَ وَأَرِنَا مَنَاسِكَنَا﴾ (البقرة : ١٢٨) فكأنه تعالى قال : ولأتم نعمتي عليكم ببيان الشرائع، وأهديكم إلى الدين إجابة لدعوة إبراهيم، كما أرسلنا فيكم رسولاً إجابة لدعوته عن ابن جرير. الثالث : قول أبي مسلم الأصفهاني، وهو أن التقدير : وكذلك جعلناكم أمة وسطاً كما أرسلنا فيكم رسولاً، أي كما أرسلنا فيكم رسولاً من شأنه وصفته كذا وكذا، فكذلك جعلناكم أمة وسطاً، وأما إن قلنا : أنّه متعلق بما بعده، فالتقدير : كما أرسلنا فيكم رسولاً منكم يعلمكم الدين والشرع، فاذكروني أذكركم وهو اختيار الأصم وتقريره إنكم كنتم على صورة لا تتلون كتاباً، ولا تعلمون رسولاً، ومحمد صلى الله عليه وسلّم رجل منكم ليس بصاحب كتاب، ثم أتاكم بأعجب الآيات يتلوه عليكم بلسانكم وفيه ما في كتب الأنبياء، وفيه الخبر عن أحوالهم، وفيه التنبيه على دلائل التوحيد والمعاد وفيه التنبيه على الأخلاق الشريفة، والنهي عن أخلاق السفهاء، وفي ذلك أعظم البرهان على صدقه فقال : كما أوليتكم هذه النعمة وجعلتها لكم دليلاً، فاذكروني بالشكر عليها، أذكركم برحمتي وثوابي، والذي يؤكده قوله تعالى :﴿لَقَدْ مَنَّ اللَّهُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ إِذْ بَعَثَ فِيهِمْ رَسُولا مِّنْ أَنفُسِهِمْ﴾ (آل عمران : ١٦٤) فلما ذكرهم هذه النعمة والمنة، أمرهم في مقابلتها بالذكر والشكر فإن قيل :(كما) هل يجوز أن يكون جواباً ؟
قلنا : جوزه الفراء وجعل لأذكروني جوابين. أحدهما :﴿كَمَآ﴾. والثاني :﴿أَذْكُرْكُمْ﴾ ووجه ذلك لأنه أوجب عليهم الذكر ليذكرهم الله برحمته، ولما سلف من نعمته، قال القاضي : والوجه الأول أولى لأنه قبل الكلام إذا وجد ما يتم به الكلام من غير فصل فتعلقه به أولى.
جزء : ٤ رقم الصفحة : ١٢٢
المسألة الثانية : في وجه التشبيه قولان : إن قلنا لكاف متعلق بقوله ولأتم نعمتي كان المعنى / أن النعمة في أمر القبلة كالنعمة بالرسالة لأنه تعالى يفعل الأصلح، وإن قلنا إنه متعلق بقوله تعالى : دل ذلك على أن النعمة بالذكر جارية مجرى النعمة بالرسالة.


الصفحة التالية
Icon