والقول الثاني : أن الذي يشير إليه كل احد بقوله :(أنا موجود) ليس بمتحيز ولا قائم بالمتحيز، وأنه ليس داخل العالم ولا خارج العالم ولا يلزم من كونه كذلك أن يكون مثل الله تعالى لأن الاشتراك في السلوك لا يقتضي الاشتراك في الماهية، واحتجوا على ذلك بأن في المعلومات ما هو فرد حقاً فوجب أن يكون العلم به فرداً حقاً، فوجب أن يكون الموصوف بذلك العلم فرداً حقاً، وكل جسم وكل حال في الجسم فليس بفرد حقاً، فذلك الذي يصدق عليه منا أنه يعلم هذه المفردات، وجب أن لا يكون جسماً ولا جسمانياً أما أن في المعلومات ما هو فرد حقاً فلأنه لا شك في وجود شيء، فهذا الموجود إن كان فرداً حقاً فهو المطلوب، وإن كان مركباً فالمركب مركب على الفرد، فلا بد من الفرد على كل الأحوال، وأما أنه إذا كان في المعلومات ما هو فرد كان في المعلوم ما هو فرد لأن العلم المتعلق بذلك الفرد إن كان منقسماً فكل واحد من أجزائه أو بعض أجزائه إما أن يكون علماً بذلك المعلوم وهو محال، لأنه يلزم أن يكون الجزء مساوياً للكل وهو محال، وإما أن لا يكون شيء من أجزائه علماً بذلك المعلوم، فعند اجتماع تلك الأجزاء إما أن يحدث زائد هو العلم بذلك المعلوم الفرد، فحينئذ يكون العلم بذلك المعلوم هو هذه الكيفية الحادثة لا تلك الأشياء التي فرضناها قبل ذلك ثم هذه الكيفية إن كانت منقسمة عاد الحديث فيه وإن لم تكن منقسمة فهو المطلوب، وأما إنه إذا كان في المعلوم علم لا يقبل القسمة كان الموصوف به أيضاً كذلك، فلأن الموصوف به لو كان قبل القسمة، لكان كل واحد من تلك الأجزاء أو شيء منها إن كان موصوفاً به بتمامه فحينئذ يكون العرض الواحد حالاً في أشياء كثيرة وهو محال، أو يتوزع أجزاء الحال على أجزاء المحل، فيقسم الحال وقد فرضنا أنه غير منقسم أو لا يتصف شيء من أجزاء المحل إلا بتمام الحال ولا شيء من أجزاء ذلك الحال/ فحينئذ يكون ذلك المحل خالياً عن ذلك الحال وقد فرضناه موصوفاً به هذا خلف، وأما أن كل متحيز ينقسم فبالدلائل المذكورة في نفي الجوهر الفرد، قالوا : فثبت أن الذي يشير إليه كل أحد بقوله :(أنا موجود) ليس بمتحيز ولا قائم بالمتحيز ثم نقول : هذا الموجود لا بد أن يكون مدركاً للجزئيات لأنه لا يمكنني أن أحكم على هذا الشخص المشار إليه بأنه إنسان وليس بفرس، والحاكم بشيء على شيء لا بد وأن يحضر المقضي عليهما فهذا الشيء مدرك لهذا الجزئي وللإنسان الكلي حتى يمكنه أن يحكم بهذا الكلي على هذا الجزئي والمدرك للكليات هو النفس والمدرك للجزئيات أيضاً هو النفس، فكل من كان مدركاً للجزئيات فإنه لا يمتنع أن يلتذ ويتألم، قالوا : إذا ثبت هذا فنقول : هذه الأرواح بعد المفارقة تتألم وتلتذ إلى أن يردها الله تعالى إلى الأبدان / يوم القيامة، فهناك يحصل الإلتذاذ والتألم للأبدان، فهذا قول قال به عالم من الناس قالوا : وهب أنه لم يقم برهان قاهر على القول به ولكن لم يقم دليل على فساده، فإنه مما يؤيد الشرع وينصر ظاهر القرآن ويزيل الشكوك والشبهات عما ورد في كتاب الله من ثواب القبر وعذابه فوجب المصير إليه فهذا هو الإشارة المختصرة في توجيه هذا القول، والله هو العالم بحقائق الأمور.
جزء : ٤ رقم الصفحة : ١٢٥
قالوا : ومما يؤكد هذا القول هو أن ثواب القبر وعذابه إما أن يصل إلى هذه البنية أو إلى جزء من أجزائها، والأول مكابرة لأنا نجد هذه البنية متفرقة متمزقة فكيف يمكن القول بوصول الثواب والعقاب إليها ؟
فلم يبق إلا أن يقال : إن الله تعالى يحيي بعض تلك الأجزاء الصغيرة ويوصل الثواب والعقاب إليها، وإذا جاز ذلك فلم لا يجوز أن يقال : الإنسان هو الروح فإنه لا يعرض له التفرق والتمزق فلا جرم يصل إليه الألم واللذة ثم إنه سبحانه وتعالى يرد الروح إلى البدن يوم القيامة الكبرى، حتى تنضم الأحوال الجسمانية إلى الأحوال الروحانية.
جزء : ٤ رقم الصفحة : ١٢٥
١٢٨
اعلم أن القفال رحمه الله قال : هذا متعلق بقوله :﴿وَاسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلَواةِ ﴾ (البقرة : ٤٥) أي استعينوا بالصبر والصلاة فإنا نبلوكم بالخوف وبكذا وفيه مسائل :
المسألة الأولى : فإن قيل إنه تعالى قال :﴿وَاشْكُرُوا لِي وَلا تَكْفُرُونِ﴾ (البقرة : ١٥٢) والشكر يوجب المزيد على ما قال :﴿لَـاـاِن شَكَرْتُمْ لازِيدَنَّكُمْ ﴾ فكيف أردفه بقوله :﴿وَلَنَبْلُوَنَّكُم بِشَيْءٍ مِّنَ الْخَوْفِ﴾. والجواب من وجهين : الأول : أنه تعالى أخبر أن إكمال الشرائع إتمام النعمة، فكان ذلك موجباً للشكر، ثم أخبر أن القيام بتلك الشرائع لا يمكن إلا بتحمل المحن، فلا جرم أمر فيها بالصبر. الثاني : أنه تعالى أنعم أولاً فأمر بالشكر، ثم ابتلى وأمر بالصبر، لينال الرجل درجة الشاكرين والصابرين معاً، فيكمل إيمانه على ما قال عليه الصلاة والسلام :"الإيمان نصفان : نصف صبر ونصف شكر".


الصفحة التالية
Icon