المسألة الأولى : اعلم أن تعلق هذه الآية بما قبلها من وجوه. أحدها : أن الله تعالى بين أنه إنما حول القبلة إلى الكعبة ليتم إنعامه على محمد صلى الله عليه وسلّم وأمته بإحياء شرائع إبراهيم / ودينه على ما قال :﴿وَلاتِمَّ نِعْمَتِى عَلَيْكُمْ﴾ وكان السعي بين الصفا والمروة من شعائر إبراهيم على ما ذكر في قصة بناء الكعبة وسعى هاجر بين الجبلين فلما كان الأمر كذلك ذكر الله تعالى هذا الحكم عقيب تلك الآية. وثانيها : أنه تعالى لما قال :﴿وَلَنَبْلُوَنَّكُم بِشَيْءٍ مِّنَ الْخَوْفِ وَالْجُوعِ﴾ (البقرة : ١٥٥) إلى قوله :﴿وَبَشِّرِ الصَّـابِرِينَ﴾ قال :﴿إِنَّ الصَّفَا وَالْمَرْوَةَ مِن شَعَآئِرِ اللَّه ﴾ وإنما جعلهما كذلك لأنهما من آثار هاجر وإسماعيل مما جرى عليهما من البلوى واستدلوا بذلك على أن من صبر على البلوى لا بد وأن يصل إلى أعظم الدرجات وأعلى المقامات. وثالثها : أن أقسام تكليف الله تعالى ثلاثة. أحدها : ما يحكم العقل بحسنه في أول الأمر فذكر هذا القسم أولاً وهو قوله :﴿فَاذْكُرُونِى أَذْكُرْكُمْ وَاشْكُرُوا لِي وَلا تَكْفُرُونِ﴾ (البقرة : ١٥٢) فإن كان عاقل يعلم أن ذكر المنعم بالمدح والثناء والمواظبة على شكره أمر مستحسن في العقول. وثانيها : ما يحكم العقل بقبحه في أول الأمر إلا أنه بسبب ورود الشرع به يسلم حسنه، وذلك مثل إنزال الآلام والفقر والمحن فإن ذلك كالمستقبح في العقول لأن الله تعالى لا ينتفع به ويتألم العبد منه فكان ذلك كالمستقبح إلا أن الشرع لما ورد به بين الحكمة فيه، وهي الإبتلاء والامتحان على ما قال :﴿وَلَنَبْلُوَنَّكُم بِشَيْءٍ مِّنَ الْخَوْفِ وَالْجُوعِ﴾ (البقرة : ١٥٥) فحينئذ يعتقد المسلم حسنه وكونه حكمة وصواباً. وثالثها : الأمر الذي لا يهتدي لا إلى حسنه ولا إلى قبحه، بل يراه كالعبث الخالي عن المنفعة والمضرة وهو مثل أفعال الحج من السعي بين الصفا والمروة، فذكر الله تعالى هذا القسم عقيب القسمين الأولين ليكون قد نبه على جميع أقسام تكاليفه وذاكراً لكلها على سبيل الاستيفاء والاستقصاء والله أعلم.
جزء : ٤ رقم الصفحة : ١٣٤
المسألة الثانية : اعلم أن الصفا والمروة علمان للجبلين المخصوصين إلا أن الناس تكلموا في أصل اشتقاقهما قال القفال رحمه الله : قيل إن الصفا واحد ويجمع على صفي وأصفاء كما يقال عصا وعصي، ورحا وأرحاء قال الزاجر :
كأن متنيه من النفي
مواقع الطير من الصفي
وقد يكون بمعنى جمع واحدته صفاة قال جرير :
إنا إذا قرع العدو صفاتنا
لاقوا لنا حجراً أصم صلودا
وفي كتاب الخليل : الصفا الحجر الضخم الصلب الأملس، وإذا نعتوا الصخرة قالوا : صفاة صفواء، وإذا ذكروا قالوا : صفا صفوان. فجعل الصفا والصفاة كأنهما في معنى واحد وقال المبرد الصفا كل حجر لا يخالطه غيره من طين أو تراب متصل به، واشتقاقه من صفا يصفوا إذا خلص وأما المروة فقال الخليل : من الحجارة ما كان أبيض أملس صلباً شديد الصلابة، وقاله غير : هو الحجارة الصغيرة يجمع في القليل مروات وفي الكثير مرو قال أبو ذؤيب :
حتى كأني للحوادث مروة
بصفا المشاعر كل يوم يقرع
وأما ﴿شَعَـا اـاِرَ اللَّهِ﴾ فهي أعلام طاعته/ وكل شيء جعل علماً من أعلام طاعة الله فهو من شعائر / الله، قال الله تعالى :﴿وَالْبُدْنَ جَعَلْنَـاهَا لَكُم مِّن شَعَـا اـاِرِ اللَّهِ﴾ (الحج : ٣٦) أي علامة للقربة، وقال :﴿ذَالِكَ وَمَن يُعَظِّمْ شَعَـا اـاِرَ اللَّهِ﴾ (الحج : ٣٢) وشعائر الحج : معالم نسكه ومنه المشعر الحرام، ومنه إشعار السنام : وهو أن يعلم بالمدية فيكون ذلك علماً على إحرام صاحبها، وعلى أنه قد جعله هديا لبيت الله، ومنه الشعائر في الحرب، وهو العلامة التي يتبين بها إحدى الفئتين من الأخرى والشعائر جمع شعيرة، وهو مأخوذ من الإشعار الذي هو الإعلام ومنه قولك : شعرت بكذا، أي علمت.
المسألة الثالثة : الشعائر إما أن نحملها على العبادات أو على النسك، أو نحملها على مواضع العبادات والنسك، فإن قلنا بالأول حصل في الكلام حذف، لأن نفس الجبلين لا يصح وصفهما بأنهما دين ونسك، فالمراد به أن الطواف بينهما والسعي من دين الله تعالى، وإن قلنا بالثاني استقام ظاهر الكلام، لأن هذين الجبلين يمكن أن يكونا موضعين للعبادات والمناسك وكيف كان فالسعي بين هذين الجبلين من شعائر الله ومن أعلام دينه، وقد شرعه الله تعالى لأمة محمد صلى الله عليه وسلّم ولإبراهيم عليه السلام قبل ذلك، وهو من المناسك الذي حكى الله تعالى عن إبراهيم عليه السلام أنه قال :﴿وَأَرِنَا مَنَاسِكَنَا﴾ (البقرة : ١٢٨) واعلم أن السعي ليس عبادة تامة في نفسه بل إنما يصير عبادة إذا صار بعضاً من أبعاض الحج، فلهذا السر بين الله تعالى الموضع الذي فيه يصير السعي عبادة فقال :﴿فَمَنْ حَجَّ الْبَيْتَ أَوِ اعْتَمَرَ فَلا جُنَاحَ عَلَيْهِ أَن يَطَّوَّفَ بِهِمَا ﴾.
جزء : ٤ رقم الصفحة : ١٣٤


الصفحة التالية
Icon