المسألة الرابعة : الحكمة في شرع هذا السعي الحكاية المشهورة وهي أن هاجر أم إسماعيل حين ضاق بها الأمر في عطشها وعطش ابنها إسماعيل عليه السلام أغاثها الله تعالى بالماء الذي أنبعه لها ولابنها من زمزم حتى يعلم الخلق أنه سبحانه وإن كان لا يخلي أولياءه في دار الدنيا من أنواع المحن إلا أن فرجه قريب فمن دعاه فإنه غياث المستغثيثن، فانظر إلى حال هاجر وإسماعيل كيف أغاثهما وأجاب دعاءهما، ثم جعل أفعالهما طاعة لجميع المكلفين إلى يوم القيامة، وآثارهما قدوة للخلائق أجمعين ليعلم أن الله لا يضيع أجر المحسنين، وكل ذلك تحقيق لما أخبر به قبل ذلك من أنه يبتلي عباده بشيء من الخوف والجوع ونقص من الأموال والأنفس والثمرات إلا أن من صبر على ذلك نال السعادة في الدارين وفاز بالمقصد الأقصى في المنزلين.
المسألة الخامسة : ذكر القفال في لفظ الحج أقوالاً. الأول : الحج في اللغة كثرة الاختلاف إلى شيء والتردد إليه، فمن زار البيت للحج فإنه يأتيه أولاً ليعرفه ثم يعود إليه للطواف ثم ينصرف إلى منى ثم يعود إليه لطواف الزيارة ثم يعود إليه لطواف الصدر. الثاني : قال قطرب : الحج الحلق يقال : احجج شجتك، وذلك أن يقطع الشعر من نواحي الشجة ليدخل المحجاج في الشجة، فيكون المعنى : حج فلان أي حلق، قال القفال وهذا محتمل لقوله تعالى :﴿لَتَدْخُلُنَّ الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ إِن شَآءَ اللَّهُ ءَامِنِينَ مُحَلِّقِينَ رُءُوسَكُمْ وَمُقَصِّرِينَ﴾ (الفتح : ٢٧) أي حجاجاً وعماراً، فعبر عن ذلك بالحلق فلا يبعد أن يكون الحج مسمى بهذا الاسم لمعنى الحلق. الثالث : قال قوم الحج القصد، يقال : رجل محجوج، ومكان / محجوج إذا كان مقصوداً، ومن ذلك محجة الطريق، فكان البيت لما كان مقصوداً بهذا النوع من العبادة سمي ذلك الفعل حجاً، قال القفال : والقول الأول أشبه بالصواب لأن قولهم رجل محجوج إنما هو فيمن يختلف إليه مرة بعد أخرى، وكذلك محجة الطريق هو الذي كثر السير إليه.
وأما العمرة فقال أهل اللغة : الاعتمار هو القصد والزيارة، قال الأعشى :
وجاشت النفس لما جاء جمعهم
وراكب جاء من تثليث معتمر
وقال قطرب : العمرة في كلام عبد القيس : المسجد، والبيعة، والكنيسة، قال القفال : ولا شبهة في العمرة إذا أضيفت إلى البيت أن تكون بمعنى الزيارة، لأن المعتمر يطوف بالبيت وبالصفا والمروة، ثم ينصرف كالزائر، وأما الجناح فهو من قولهم : جنح إلى كذا أي مال إليه، قال الله تعالى :﴿وَإِن جَنَحُوا لِلسَّلْمِ فَاجْنَحْ لَهَا﴾ (الأنفال : ٦١) وجنحت السفينة إذا لزمت الماء فلم تمض، وجنح الرجل في الشيء يعلمه بيده إذا مال إليه بصدره وقيل للأضلاع : جوانح لاعوجاجها، وجناح الطائر من هذا، لأنه يميل في أحد شقيه ولا يطير على مستوى خلقته فثبت أن أصله من الميل، ثم من الناس من قال إنه بقي في عرف القرآن كذلك أيضاً فمعنى : لا جناح عليه أينما ذكر في القرآن : لا ميل لأحد عليه بمطالبة شيء من الأشياء، ومنهم من قال : بل هو مختص بالميل إلى الباطل وإلى ما يأثم به.
جزء : ٤ رقم الصفحة : ١٣٤
وقوله :﴿أَن يَطَّوَّفَ بِهِمَا ﴾ أي يتطوف فأدغمت التاء في الطاء كما قال :﴿رَّحِيمُ * يَـا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ﴾ (المدثر : ١)، ﴿عَدَدَا * يَـا أَيُّهَا الْمُزَّمِّلُ﴾ (المزمل : ١) أي المتدثر والمتزمل، ويقال : طاف وأطاف بمعنى واحد.