المسألة السادسة : ظاهر قوله تعالى :﴿لا جُنَاحَ عَلَيْهِنَّ﴾ أنه لا إثم عليه، والذي يصدق عليه أنه لا إثم في فعله يدخل تحته الواجب والمندوب والمباح، ثم يمتاز كل واحد من هذه الثلاثة عن الآخر بقيد زائد، فإذن ظاهر هذه الآية لا يدل على أن السعي بين الصفا والمروة واجب، أو ليس بواجب، لأن اللفظ الدال على القدر المشترك بين الأقسام لا دلالة فيه البتة على خصوصية من الرجوع إلى دليل آخر، إذا عرفت هذا فنقول : مذهب الشافعي رحمه الله أن هذا السعي ركن، ولا يقوم الدم مقامه، وعند أبي حنيفة رحمه الله أنه ليس بركن، ويقوم الدم مقامه، وروي عن ابن الزبير ومجاهد وعطاء، أن من تركه فلا شيء عليه، حجة الشافعي رضي الله عنه من وجوه. أحدها : ما روي عن النبي صلى الله عليه وسلّم أنه قال :"إن الله كتب عليكم السعي فاسعوا"، فإن قيل : هذا الحديث متروك الظاهر، لأنه يقتضي وجوب السعي وهو العدو، ذلك غير واجب قلنا : لا نسلم أن السعي عبارة عن العدو بدليل قوله :﴿فَاسْعَوْا إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ﴾ (الجمعة : ٩) والعدو فيه غير واجب، وقال الله تعالى :﴿وَأَن لَّيْسَ لِلانسَـانِ إِلا مَا سَعَى ﴾ (النجم : ٣٩) وليس المراد منه العدو، بل الجد والاجتهاد في القصد والنية، سلمنا أنه يدل على العدو، ولكن العدو مشتمل على صفة ترك العمل به في حق هذه الصفة، فيبقى أصل المشي واجباً. وثانيها : ما ثبت أنه عليه السلام سعى لما دنا من الصفا في حجته، وقال :"إن الصفا والمروة من شعائر الله ابدؤا بما بدأ الله به" فبدأ بالصفا فرقى عليه حتى رأى / البيت، وإذا ثبت أنه عليه السلام سعى وجب أن يجب علينا السعي للقرآن والخبر، أما القرآن : فقوله تعالى :﴿وَاتَّبِعُوهُ﴾ وقوله :﴿قُلْ إِن كُنتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِى﴾ (آل عمران : ٣١) وقوله :﴿لَّقَدْ كَانَ لَكُمْ فِى رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ﴾ (
جزء : ٤ رقم الصفحة : ١٣٤
الأحزاب : ٢١) وأما الخبر فقوله عليه السلام :"خذوا عني مناسككم" والأمر للوجوب. وثالثها : أنه أشواط شرعت في بقعة من بقاع الحرم، أو يؤتى به في إحرام كامل فكان جنسها ركناً كطواف الزيارة، ولا يلزم طواف الصدر لأن الكلام للجنس لوجوبه مرة، واحتج أبو حنيفة رضي الله عنه بوجهين. أحدهما : هذه الآية وهي قوله :﴿فَلا جُنَاحَ عَلَيْهِ أَن يَطَّوَّفَ بِهِمَا ﴾ وهذا لا يقال في الواجبات. ثم إنه تعالى أكد ذلك بقوله :﴿وَمَن تَطَوَّعَ خَيْرًا﴾ فبين أنه تطوع وليس بواجب. وثانيهما : قوله :"الحج عرفة" ومن أدرك عرفة فقد تم حجه، وهذا يقتضي التمام من جميع الوجوه، ترك العمل به في بعض الأشياء، فيبقى معمولاً به في السعي والجواب عن الأول من وجوه. الأول : ما بينا أن قوله :﴿فَلا جُنَاحَ عَلَيْهِ﴾ ليس فيه إلا أنه لا إثم على فاعله، وهذا القدر المشترك بين الواجب وغيره، فلا يكون فيه دلالة على نفي الوجوب والذي يحقق ذلك قوله تعالى :﴿فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَن تَقْصُرُوا مِنَ الصَّلواةِ إِنْ خِفْتُمْ﴾ (النساء : ١٠١) والقصر عند أبي حنيفة واجب، مع أنه قال فيه :﴿فَلا جُنَاحَ عَلَيْهِ﴾ فكذا ههنا. الثاني : أنه رفع الجناح عن الطواف بهما لا عن الطواف بينهما، وعندنا الأول غير واجب، وإنما الثاني هو الواجب. الثالث : قال ابن عباس : كان على الصفا صنم وعلى المروة صنم وكان أهل الجاهلية يطوفون بهما ويتمسحون بهما فلما جاء الإسلام كره المسلمون الطواف بينهما لأجل الصنمين فأنزل الله تعالى هذه الآية، إذا عرفت هذا فنقول انصرفت الإباحة إلى وجود الصنمين حال الطواف لا إلى نفس الطواف كما لو كان في الثوب نجاسة يسيرة عندكم، أو دم البراغيث عندنا، فقيل : لا جناح عليك أن تصلي فيه، فإن رفع الجناح ينصرف إلى مكان النجاسة لا إلى نفس الصلاة. الرابع : روي عن عروة أنه قال لعائشة : إني أرى أن لا حرج علي في أن لا أطوف بهما، فقالت : بئس ما قلت لو كان كذلك لقال : أن لا يطوف بهما، ثم حكى ما تقدم من الصنمين، وتفسير عائشة راجح على تفسير التابعين، فإن قالوا : قرأ ابن مسعود :(فلا جناح عليه أن لا يطوف بهما) واللفظ أيضاً محتمل له كقوله :﴿يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ أَن تَضِلُّوا ﴾ (النساء : ١٧٦) أي أن لا تضلوا، وكقوله تعالى :﴿أَن تَقُولُوا يَوْمَ الْقِيَـامَةِ﴾ (الأعراف : ١٧٢) معناه : أن لا تقولوا، قلنا : القراءة الشاذة لا يمكن اعتبارها في القرآن لأن تصحيحها يقدح في كون القرآن متواتراً. الخامس : كما أن قوله :﴿فَلا جُنَاحَ عَلَيْهِ﴾ لا يطلق على الواجب، فكذلك لا يطلق على المندوب، ولا شك في أن السعي مندوب، فقد صارت الآية متروكة العمل بظاهرها.
جزء : ٤ رقم الصفحة : ١٣٤


الصفحة التالية
Icon