أما قوله :﴿وَلِتُكَبِّرُوا اللَّهَ عَلَى مَا﴾ ففيه وجهان الأول : أن المراد منه التكبير ليلة الفطر قال ابن عباس : حق على المسلمين إذا رأوا هلال شوال أن يكبروا، وقال الشافعي : وأحب إظهار التكبير في العيدين، وبه قال مالك وأحمد وإسحاق وأبو يوسف ومحمد، وقال أبو حنيفة : يكره ذلك غداة الفطر، واحتج الشافعي رحمه الله بقوله تعالى :﴿الْعُسْرَ وَلِتُكْمِلُوا الْعِدَّةَ وَلِتُكَبِّرُوا اللَّهَ عَلَى مَا هَدَاكُمْ﴾ وقال : معناه ولتكملوا عدة شهر رمضان لتكبروا الله عند انقضائه على ما هداكم إلى هذه الطاعة، ثم يتفرع على هذا ثلاث مسائل : إحداها : اختلف قوله في أن أي العيدين أوكد في التكبير ؟
فقال في القديم : ليلة النحر أوكد لإجماع السلف عليها، وقال في الجديد : ليلة الفطر أوكد لورود النص / فيها وثانيها : أن وقت التكبير بعد غروب الشمس من ليلة الفطر، وقال مالك : لا يكبر في ليلة الفطر ولكنه يكبر في يومه، وروي هذا عن أحمد، وقال إسحق : إذا غدا إلى المصلى حجة الشافعي أن قوله تعالى :﴿وَلِتُكَبِّرُوا اللَّهَ عَلَى مَا هَدَاكُمْ﴾ يدل على أن الأمر بهذا يوجب أن يكون التكبير وقع معللاً بحصول هذه الهداية، لكن بعد غروب الشمس تحصل هذه الهداية، فوجب أن يكون التكبير من ذلك الوقت وثالثها : مذهب الشافعي أن وقت هذا التكبير ممتد إلى أن يحرم الإمام بالصلاة، وقيل فيه قولان آخران أحدهما : إلى خروج الإمام والثاني : إلى انصراف الإمام والصحيح هو الأول، وقال أبو حنيفة : إذا بلغ إلى أدنى المصلى ترك التكبير.
القول الثاني : في تفسير قوله :﴿وَلِتُكَبِّرُوا اللَّهَ﴾ أن المراد منه التعظيم لله شكراً على ما وفق على هذه الطاعة، واعلم أن تمام هذا التكبير إنما يكون بالقول والاعتقاد والعمل أما القول : فالإقرار بصفاته العلي، وأسمائه الحسنى، وتنزيهه عما لا يليق به من ند وصاحبة وولد وشبه بالخلق، وكل ذلك لا يصح إلا بعد صحة الاعتقاد بالقلب وأما العمل : فالتعبد بالطاعات من الصلاة والصيام، والحج واعلم أن القول الأول أقرب، وذلك لأن تكبير الله تعالى بهذا التفسير واجب في جميع الأوقات، ومع كل الطاعات فتخصيص هذه الطاعة بهذا التكبير يوجب أن يكون هذا التكبير له خصوصية زائدة على التكبير الواجب في كل الأوقات.
أما قوله تعالى :﴿عَلَى مَا هَدَاكُمْ﴾ فإنه يتضمن الإنعام العظيم في الدنيا بالأدلة والتعريف والتوفيق والعصمة، وعند أصحابنا بخلق الطاعة.
جزء : ٥ رقم الصفحة : ٢٥٠
وأما قوله تعالى :﴿وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ﴾ ففيه بحثان أحدهما : أن كلمة ﴿لَعَلَّ﴾ للترجي، والترجي لا يجوز في حق الله والثاني : البحث عن حقيقة الشكر، وهذان بحثان قد مر تقريرهما.
بقي ههنا بحث ثالث، وهو أنه ما الفائدة في ذكر هذا اللفظ في هذا الموضع فنقول : إن الله تعالى لما أمر بالتكبير وهو لا يتم إلا بأن يعلم العبد جلال الله وكبريائه وعزته وعظمته، وكونه أكبر من أن تصل إليه عقول العقلاء، وأوصاف الواصفين، وذكر الذاكرين، ثم يعلم أنه سبحانه مع جلاله وعزته واستغنائه عن جميع المخلوقات، فضلاً عن هذا المسكين خصه الله بهذه الهداية العظيمة لا بد وأن يصير ذلك داعياً للعبد إلى الاشتغال بشكره، والمواظبة على الثناء عليه بمقدار قدرته وطاقته فلهذا قال :﴿وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ﴾.
جزء : ٥ رقم الصفحة : ٢٥٠
٢٦٠
في الآية مسائل :
المسألة الأولى : في كيفية اتصال هذه الآية بما قبلها وجوه الأول : أنه تعالى لما قال بعض إيجاب فرض الصوم وبيان أحكامه :﴿وَلِتُكَبِّرُوا اللَّهَ عَلَى مَا هَدَاكُمْ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ﴾ (البقرة : ١٨٥) فأمر بعد التكبير الذي هو الذكر وبالشكر، بين أنه سبحانه بلطفه ورحمته قريب من العبد مطلع على ذكره وشكره فيسمع نداءه، ويجيب دعاءه، ولا يخيب رجاءه والثاني : أن أمر بالتكبير أولاً ثم رغبه في الدعاء ثانياً، تنبيهاً على أن الدعاء لا بد وأن يكون مسبوقاً بالثناء الجميل، ألا ترى أن الخليل عليه السلام لما أراد الدعاء قدم عليه الثناء، فقال أولاً :﴿الَّذِى خَلَقَنِى فَهُوَ يَهْدِينِ﴾ (الشعرا : ٧٨) إلى قوله :﴿وَالَّذِى أَطْمَعُ أَن يَغْفِرَ لِى خَطِى ئَتِى يَوْمَ الدِّينِ﴾ (الشعراء : ٨٢) وكل هذا ثناء منه على الله تعالى ثم شرع بعده في الدعاء فقال :﴿رَبِّ هَبْ لِى حُكْمًا وَأَلْحِقْنِى بِالصَّـالِحِينَ﴾ (الشعراء : ٨٣) فكذا ههنا أمر بالتكبير أولاً ثم شرع بعده في الدعاء ثانياً الثالث : إن الله تعالى لما فرض عليهم الصيام كما فرض على الذين من قبلهم، وكان ذلك على أنهم إذا ناموا حرم عليهم ما يحرم على الصائم، فشق ذلك على بعضهم حتى عصوا الله في ذلك التكليف، ثم ندموا وسألوا النبي صلى الله عليه وسلّم عن توبتهم، فأنزل الله تعالى هذه الآية مخبراً لهم بقبول توبتهم، ونسخ ذلك التشديد بسبب دعائهم وتضرعهم.