المسألة الرابعة : قالت المعتزلة :﴿أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ ﴾ مختص بالمؤمنين ﴿الَّذِينَ ءَامَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمَـانَهُم بِظُلْمٍ﴾ (الأنعام : ٨٢) وذلك لأن وصفنا الإنسان بأن الله تعالى قد أجاب دعوته، صفة مدح وتعظيم، ألا ترى أنا إذا أردنا المبالغة في تعظيم حال إنسان في الدين قلنا إنه مستجاب الدعوة وإذا كان هذا من أعظم المناصب في الدين، والفاسق واجب الإهانة في الدين، ثبت أن هذا الوصف لا يثبت إلا لمن لا يتلوث إيمانه بالفسق، بل الفاسق قد يفعل الله ما يطلبه إلا أن ذلك لا يسمى إجابة الدعوة.
أما قوله تعالى :﴿فَلْيَسْتَجِيبُوا لِى وَلْيُؤْمِنُوا بِى﴾ ففيه مسائل :
المسألة الأولى : وجه الناظم أن يقال : إنه تعالى قال : أنا أجيب دعاءك مع أني غني عنك مطلقاً، فكن أنت أيضاً مجيباً لدعائي مع أنك محتاج إلى من كل الوجوه، فما أعظم هذا الكرم، وفيه دقيقة أخرى وهي أنه تعالى لم يقل للعبد : أجب دعائي حتى أجيب دعاءك، لأنه لو قال ذلك لصار لدعائي، وهذا تنبيه على أن إجابة الله عبده فضل منه ابتداء، وأنه غير معلل بطاعة العبد، وأن إجابة الرب في هذا الباب إلى العبد متقدمة على اشتغال العبد بطاعة الرب، وهذا يدل على فساد ما نقلناه عن المعتزلة في المسألة الرابعة.
جزء : ٥ رقم الصفحة : ٢٦٠
المسألة الثانية : قال الواحدي : أجاب واستجاب بمعنى واحد : قال كعب الغنوي :
وداع دعا يا من يجيب إلى الندا
فلم يستجبه عند ذاك مجيب
وقال أهل المعنى : الإجابة من العبد لله الطاعة، وإجابة الله لعبده إعطاؤه إياه مطلوبه، لأن إجابة كل شيء على وفق ما يليق به.
المسألة الثالثة : إجابة العبد لله إن كانت إجابة بالقلب واللسان، فذاك هو الإيمان، وعلى هذا التقدير يكون قوله :﴿فَلْيَسْتَجِيبُوا لِى وَلْيُؤْمِنُوا بِى﴾ تكراراً محضاً، وإن كانت إجابة العبد لله عبارة عن الطاعات كان الإيمان مقدماً على الطاعات، وكان حق النظم أن يقول : فليؤمنوا بي وليستجيبوا لي، فلم جاء على العكس منه ؟
وجوابه : أن الإستجابة عبارة عن الإنقياد والإستسلام، والإيمان عبارة عن صفة القلب، وهذا يدل على أن العبد لا يصل إلى نور الإيمان وقوته إلا بتقدم الطاعات والعبادات.
أما قوله تعالى :﴿لَعَلَّهُمْ يَرْشُدُونَ﴾ فقال صاحب "الكشاف" : قرىء ﴿يَرْشُدُونَ﴾ بفتح الشين وكسرها، ومعنى الآية أنهم إذا استجابوا لي وآمنوا بي : اهتدوا لمصالح دينهم ودنياهم، لأن الرشيد هو من كان كذلك، يقال : فلان رشيد، قال تعالى :﴿وَابْتَلُوا الْيَتَـامَى حَتَّى ا إِذَا﴾ (النساء : ٦) وقال :﴿ أولئك هُمُ الراَّشِدُونَ﴾ (الحجرات : ٧).
جزء : ٥ رقم الصفحة : ٢٦٠
٢٦٧
فيه مسائل :
المسألة الأولى : أنه ذهب جمهور المفسرين إلى أن في أول شريعة محمد صلى الله عليه وسلّم، كان الصائم إذا أفطر حل له الأكل والشرب والوقاع بشرط أن لا ينام وأن لا يصلي العشاء الأخيرة فإذا فعل أحدهما حرم عليه هذه الأشياء، ثم إن الله تعالى نسخ ذلك بهذه الآية، وقال أبو مسلم الأصفهاني هذه الحرمة ما كانت ثابتة في شرعنا ألبتة، بل كانت ثابتة في شرع النصارى، والله تعالى نسخ بهذه الآية ما كان ثابتاً في شرعهم، وجرى فيه على مذهبه من أنه لم يقع في شرعنا نسخ ألبتة، واحتج الجمهور على قولهم بوجوه.
الحجة الأولى : أن قوله تعالى :﴿كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ﴾ (البقرة : ١٨٣) يقتضي تشبيه صومنا بصومهم، وقد كانت هذه الحرمة ثابتة في صومهم، فوجب بحكم هذا التشبيه أن تكون ثابتة أيضاً في صومنا، وإذا ثبت أن الحرمة كانت ثابتة في شرعنا، وهذه الآية ناسخة لهذه الحرمة لزم أن تكون هذه الآية ناسخة لحكم كان ثابتاً في شرعنا.
الحجة الثانية : التمسك بقوله تعالى :﴿أُحِلَّ لَكُمْ لَيْلَةَ الصِّيَامِ الرَّفَثُ إِلَى نِسَآئِكُمْ ﴾ ولو كان هذا الحل ثابتا لهذه الأمة من أول الأمر لم يكن لقوله ﴿أُحِلَّ لَكُمْ﴾ فائدة.
الحجة الثالثة : التمسك بقوله تعالى :﴿عَلِمَ اللَّهُ أَنَّكُمْ كُنتُمْ تَخْتَانُونَ أَنفُسَكُمْ﴾ ولو كان ذلك حلالاً لهم لما كان بهم حاجة إلى أن يختانون أنفسهم.
الحجة الرابعة : قوله تعالى :﴿فَتَابَ عَلَيْكُمْ وَعَفَا عَنكُمْ ﴾ ولولا أن ذلك كان محرماً عليهم وأنهم أقدموا على المعصية بسبب الإقدام على ذلك الفعل، لما صح قوله :﴿فَتَابَ عَلَيْكُمْ وَعَفَا عَنكُمْ ﴾.
جزء : ٥ رقم الصفحة : ٢٦٧
الحجة الخامسة : قوله تعالى :﴿أُحِلَّ لَكُمْ﴾ ولو كان الحل ثابتا قبل ذلك كما هو الآن لم يكن لقوله :﴿أُحِلَّ لَكُمْ﴾ فائدة.
الحجة السادسة : هي أن الروايات المنقولة في سبب نزول هذه الآية دالة على أن هذه الحرمة كانت ثابتة في شرعنا، هذا مجموع دلائل القائلين بالنسخ، أجاب أبو مسلم عن هذه الدلائل فقال :


الصفحة التالية
Icon