أما الحجة الأولى : فضعيفة لأنا بينا أن تشبيه الصوم بالصوم يكفي في صدقه مشابهتهما في أصل الوجوب.
وأما الحجة الثانية : فضعيفة أيضاً لأنا نسلم أن هذه الحرمة كانت ثابتة في شرع من قبلنا، فقوله :﴿أُحِلَّ لَكُمْ﴾ معناه أن الذي كان محرماً على غيركم فقد أحل لكم.
وأما الحجة الثالثة : فضعيف أيضاً، وذلك لأن تلك الحرمة كانت ثابتة في شرع عيسى عليه السلام، وأن الله تعالى أوجب علينا الصوم، ولم يبين في ذلك الإيجاب زوال تلك الحرمة فكان يخطر ببالهم أن تلك الحرمة كانت ثابتة في الشرع المتقدم، ولم يوجد في شرعنا ما دل على زوالها فوجب القول ببقائها، ثم تأكد هذا الوهم بقوله تعالى :﴿كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ﴾ فإن مقتضى التشبيه حصول المشابهة في كل الأمور، فلما كانت هذه الحرمة ثابتة في الشرع المتقدم وجب أن تكون ثابتة في هذا الشرع، وإن لم تكن حجة قوية إلا أنها لا أقل من أن تكون شبهة موهمة فلأجل هذه الأسباب كانوا يعتقدون بقاء تلك الحرمة في شرعنا، فلا جرم شددوا وأمسكوا عن هذه الأمور فقال الله تعالى :﴿عَلِمَ اللَّهُ أَنَّكُمْ كُنتُمْ تَخْتَانُونَ أَنفُسَكُمْ﴾ وأراد به تعالى النظر للمؤمنين بالتخفيف لهم بما لو لم تتبين الرخصة فيه لشددوا وأمسكوا عن هذه الأمور ونقصوا أنفسهم من الشهوة، ومنعوها من المراد، وأصل الخيانة النقص، وخان واختان وتخون بمعنى واحد كقولهم : كسب واكتسب وتكسب، فالمراد من الآية : علم الله أنه لو لم يتبين لكم إحلال الأكل والشرب والمباشرة طول الليل أنكم كنتم تنقصون أنفسكم شهواتها وتمنعونها لذاتها ومصلحتها بالإمساك عن ذلك بعد النوم كسنة النصارى.
وأما الحجة الرابعة : فضعيفة لأن التوبة من العباد الرجوع إلى الله تعالى بالعبادة ومن الله الرجوع إلى العبد بالرحمة والإحسان، وأما العفو فهو التجاوز فبين الله تعالى إنعامه علينا بتخفيف ما جعله ثقيلاً على من قبلنا كقوله :﴿وَيَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ وَالاغْلَـالَ الَّتِى كَانَتْ عَلَيْهِمْ ﴾ (الأعراف : ١٥٧).
جزء : ٥ رقم الصفحة : ٢٦٧
وأما الحجة الخامسة : فضعيفة لأنهم كانوا بسبب تلك الشبهة ممتنعين عن المباشرة، فلما بين الله تعالى ذلك وأزال الشبهة فيه لا جرم قال :﴿أُحِلَّ لَكُمْ﴾.
وأما الحجة السادسة : فضعيفة لأن قولنا : هذه الآية ناسخة لحكم كان مشروعاً لا تعلق له بباب العمل ولا يكون خبر الواحد حجة فيه، وأيضاً ففي الآية ما يدل على ضعف هذه الروايات لأن المذكور في تلك الروايات أن القوم اعترفوا بما فعلوا عند الرسول، وذلك على خلاف قول الله تعالى :﴿عَلِمَ اللَّهُ أَنَّكُمْ كُنتُمْ تَخْتَانُونَ أَنفُسَكُمْ﴾ لأن ظاهره هو المباشرة، لأنه افتعال من الخيانة، فهذا حاصل الكلام في هذه المسألة.
المسألة الثانية : القائلون بأن هذه الحرمة كانت ثابتة في شرعنا، ثم إنها نسخت ذكروا في سبب نزول هذه الآية أنه كان في أول الشريعة يحل الأكل والشرب والجماع، ما لم يرقد الرجل أو يصل العشاء الآخرة، فإذا فعل أحدهما حرم عليه هذه الأشياء إلى الليلة الآتية، فجاء رجل من الأنصار عشية وقد أجهده الصوم، واختلفوا في اسمه، فقال معاذ : اسمه أبو صرمة، وقال البراء : قيس بن صرمة، وقال الكلبي : أبو قيس بن صرمة، وقيل : صرمة بن أنس، فسأله رسول الله صلى الله عليه وسلّم عن سبب ضعفه فقال : يا رسول الله عملت في النخل نهاري أجمع حتى أمسيت فأتيت أهلي لتطعمني شيئاً فأبطأت فنمت فأيقظوني، وقد حرم الأكل فقام عمر فقال : يا رسول الله أعتذر إليك من مثله. رجعت إلى أهلي بعدما صليت العشاء الآخرة، فأتيت امرأتي، فقال عليه الصلاة والسلام : لم تكن جديراً بذلك يا عمر ثم قام رجال فاعترفوا بالذي صنعوا فنزل قوله تعالى :﴿أُحِلَّ لَكُمْ لَيْلَةَ الصِّيَامِ الرَّفَثُ إِلَى نِسَآئِكُمْ ﴾.
المسألة الثالثة : قال صاحب "الكشاف" : قرىء ﴿أُحِلَّ لَكُمْ لَيْلَةَ الصِّيَامِ الرَّفَثُ﴾ أي أحل الله وقرأ عبد الله.
المسألة الرابعة : قال الواحدي : ليلة الصيام أراد ليالي الصيام فوقع الواحد موقع الجماعة، ومنه قول العباس بن مرادس :
فقلنا أسلموا إنا أخوكم
فقد برئت من الأحن الصدور
وأقول فيه وجه آخر وهو أنه ليس المراد من ﴿لَكُمْ لَيْلَةَ الصِّيَامِ﴾ ليلة واحدة بل المراد الإشارة إلى الليلة المضافة إلى هذه الحقيقة.
المسألة الخامسة : قال الليث : الرفث أصله قول الفحش، وأنشد الزجاج :
جزء : ٥ رقم الصفحة : ٢٦٧
ورب أسراب حجيج كقلم
عن اللغا ورفث التكلم
يقال رفث في كلامه يرفث وأرفث إذا تكلم بالقبيح قال تعالى :﴿فَلا رَفَثَ وَلا فُسُوقَ﴾ (البقرة : ١٩٧) وعن ابن عباس أنه أنشد وهو محرم :
وهن يمشين بنا هميسا
أن يصدق الطير ننك لميسا