وجوابه : أنه لولا قوله تعالى في آخر هذه الآية :﴿مِنَ الْفَجْرِ ﴾ لكان السؤال لازماً، وذلك لأن الفجر إنما يسمى فجراً لأنه ينفجر منه النور، وذلك إنما يحصل في الصبح الثاني لا في الصبح الأول/ فلما دلت الآية على أن الخيط الأبيض يجب أن يكون من الفجر، علمنا أنه ليس المراد منه الصبح الكاذب بل الصبح الصادق، فإن قيل : فكيف يشبه الصبح الصادق بالخيط، مع أن الصبح الصادق ليس بمستطيل والخيط مستطيل.
وجوابه : أن القدر من البياض الذي يحرم هو أول الصبح الصادق، وأول الصبح الصادق لا يكون منتشراً بل يكون صغيراً دقيقاً، بل الفرق بينه وبين الصبح الكاذب أن الصبح الكاذب يطلع دقيقاً، والصادق يبدو دقيقاً، ويرتفع مستطيلاً فزال السؤال، فأما ما حكي عن عدي بن حاتم فبعيد، لأنه يبعد أن يخفى على مثله هذه الإستعارة مع قوله تعالى :﴿مِنَ الْفَجْرِ ﴾.
المسألة الثانية : لا شك أن كلمة ﴿حَتَّى ﴾ لانتهاء الغاية، فدلت هذه الآية على أن حل المباشرة والأكل والشرب ينتهي عند طلوع الصبح، ووزعم أبو مسلم الأصفهاني لا شيء من المفطرات إلا أحد هذه الثلاثة، فأما الأمور التي تذكرها الفقهاء من تكلف القيء والحقنة والسعوط فليس شيء منها بمفطر، قال لأن كل هذه الأشياء كانت مباحة ثم دلت هذه الآية على حرمة هذه الثلاثة على الصائم بعد الصبح، فبقي ما عداها على الحل الأصلي، فلا يكون شيء منها مفطراً والفقهاء قالوا إن الله تعالى خص هذه الأشياء الثلاثة بالذكر لأن النفس تميل إليها، وأما القيء والحقنة فالنفس تكرههما، والسعوط نادر فلهذا لم يذكرها.
المسألة الثالثة : مذهب أبي هريرة والحسن بن صالح بن جني أن الجنب إذا أصبح قبل الاغتسال لم يكن له صوم، وهذه الآية تدل على بطلان قولهم لأن المباشرة إذا كانت مباحة إلى انفجار الصبح لم يمكنه الاغتسال إلا بعد انفجار الصبح.
المسألة الرابعة : زعم الأعمش أنه يحل الأكل والشرب والجماع بعد طلوع الفجر وقبل طلوع الشمس قياساً لأول النهار على آخره، فكما أن آخره بغروب القرص، وجب أن يكون أوله بطلوع القرص، وقال في الآية أن المراد بالخيط الأبيض والخيط الأسود النهار والليل، ووجه الشبهة ليس إلا في البياض والسواد، فإما أن يكون التشبيه في الشكل مراداً فهذا غير جائز لأن ظلمة الأفق حال طلوع الصبح لا يمكن تشبيهها بالخيط الأسود في الشكل ألبتة، فثبت أن المراد بالخيط الأبيض والخيط الأسود هو النهار والليل ثم لما بحثنا عن حقيقة الليل في قوله :﴿ثُمَّ أَتِمُّوا الصِّيَامَ إِلَى الَّيْلِ ﴾ وجدناها عبارة عن زمان غيبة الشمس بدليل أن الله تعالى سمى ما بعد المغرب ليلاً مع بقاء الضوء فيه فثبت أن يكون الأمر في الطرف الأول من النهار كذلك، فيكون قبل طلوع الشمس ليلاً، وأن لا يوجد / النهار إلا عند طلوع القرص، فهذا تقرير قول الأعمش، ومن الناس من سلم أن أول النهار إنما يكون من طلوع الصبح فقاس عليه آخر النهار، ومنهم من قال : لا يجوز الإفطار إلا بعد غروب الحمرة، ومنهم من زاد عليه وقال : بل لا يجوز الإفطار إلا عند طلوع الكواكب، وهذه المذاهب قد انقرضت، والفقهاء أجمعوا على بطلانها فلا فائدة في استقصاء الكلام فيها.
جزء : ٥ رقم الصفحة : ٢٦٧
المسألة الخامسة :﴿الْفَجْرِ ﴾ مصدر قولك : فجرت الماء أفجره فجراً، وفجرته تفجيراً. قال الأزهري : الفجر أصله الشق، فعل هذا الفجر في آخر الليل هو إنشقاق ظلمة الليل بنور الصبح، وأما قوله تعالى :﴿مِنَ الْفَجْرِ ﴾ فقيل للتبعيض لأن المعتبر بعض الفجر لا كله، وقيل للتبيين كأنه قيل : الخيط الأبيض الذي هو الفجر.
المسألة السادسة : أن الله تعالى لما أحل الجماع والأكل والشرب إلى غاية تبين الصبح، وجب أن يعرف أن تبين الصبح ما هو ؟
فنقول : الطريق إلى معرفة تبين الصبح إما أن يكون قطيعاً أو ظنياً، أما القطعي فبأن يرى طلوع الصبح أو يتيقن أنه مضى من الزمان ما يجب طلوع الصبح عنده وأما الظني فنقول : إما أن يحصل ظن أن الصبح طلع فيحرم الأكل والشرب والوقاع فإن حصل ظن أنه ما طلع كان الأكل والشرب والوقاع مباحاً، فإن أكل ثم تبين بعد ذلك أن ذلك الظن خطأ وأن الصبح كان قد طلع عند ذلك الأكل فقد اختلفوا، وكذلك إن ظن أن الشمس قد غربت فأفطر ثم تبين أنها ما كانت غاربة فقال الحسن : لا قضاء في الصورتين قياساً على ما لو أكل ناسياً، وقال أبو حنيفة ومالك والشافعي في رواية المزني عنه : يجب القضاء لأنه أمر بالصوم من الصبح إلى الغروب ولم يأت به وأما الناسي فعند مالك يجب عليه القضاء، وأما الباقون الذين سلموا أنه لا قضاء قالوا : مقتضى الدليل وجوب القضاء عليه أيضاً، إلا أنا أسقطناه عنه للنص، وهو ما روى أبو هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلّم أن رجلاً قال : أكلت وشربت وأنا صائم فقال عليه الصلاة والسلام : أطعمك الله وسقاك فأنت ضيف الله فتم صومك.