والقول الثالث : أنه إذا أخطأ في طلوع الصبح لا يجب القضاء، وإذا أخطأ في غروب الشمس يجب القضاء، والفرق أن الأصل في كل ثابت بقاؤه على ما كان، والثابت في الليل حل الأكل، وفي النهار حرمته، أما إذا لم يغلب على ظنه لا بقاء الليل ولا طلوع الصبح، بل بقي متوقفاً في الأمرين، فههنا يكره له الأكل والشرب والجماع، فإن فعل جاز، لأن الأصل بقاء الليل والله أعلم.
أما قوله تعالى :﴿ثُمَّ أَتِمُّوا الصِّيَامَ إِلَى الَّيْلِ ﴾ ففيه مسائل :
جزء : ٥ رقم الصفحة : ٢٦٧
المسألة الأولى : أن كلمة ﴿إِلَى ﴾ لانتهاء الغاية، فظاهر الآية أن الصوم ينتهي عند دخول الليل، وذلك لأن غاية الشيء مقطعه ومنتهاه، وإنما يكون مقطعاً ومنتهى إذا لم يبق بعد ذلك، وقد تجيء / هذه الكلمة لا للانتهاء كما قوله تعالى :﴿إِلَى الْمَرَافِقِ﴾ (المائدة : ٦) إلا أن ذلك على خلاف الدليل، والفرق بين الصورتين أن الليل ليس من جنس النهار، فيكون الليل خارجاً عن حكم النهار، والمرافق من جنس اليد فيكون داخلاً فيه، وقال أحمد بن يحيى : سبيل إلى الدخول والخروج، وكلا الأمرين جائز، تقول : أكلت السمكة إلى رأسها، وجائز أن يكون الرأس داخلاً في الأكل وخارجاً منه، إلا أنه لا يشك ذو عقل أن الليل خارج عن الصوم، إذ لو كان داخلاً فيه لعظمت المشقة ودخلت المرافق في الغسل أخذاً بالأوثق، ثم سواء قلنا إنه مجمل أو غير مجمل، فقد ورد الحديث الصحيح فيه، وهو ما روى عمر رضي الله عنه قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلّم :"إذا أقبل الليل من ههنا، وأدبر النهار من ههنا، وقد غربت الشمس فقد أفطر الصائم" فهذا الحديث يدل على أن الصوم ينتهي في هذا الوقت. فأما أنه يجب على المكلف أن يتناول عند هذا الوقت شيئاً، فالدليل عليه ما روى الشافعي رضي الله تعالى عنه بإسناده عن ابن عمر أن النبي صلى الله عليه وسلّم نهى عن الوصال، قيل : يا رسول الله تواصل، أي كيف تنهانا عن أمر أنت تفعله ؟
فقال : إني لست مثلكم إني أبيت عند ربي يطعمني ويسقيني، وقيل فيه معان أحدها : أنه كان يطعم ويسقى من طعام الجنة والثاني : أن عليه الصلاة والسلام قال : إني على ثقة من أني لو احتجت إلى الطعام أطعمني مواصلاً، وحكى محمد بن جرير الطبري عن ابن الزبير، أنه كان يواصل سبعة أيام، فلما كبر جعلها خمساً، فلما كبر جداً جعلها ثلاثاً، فظاهر كلام الشافعي رضي الله عنه يدل على أن هذا النهي نهي تحريم، وقيل : هو نهي تنزيه، لأنه ترك للمباح، وعلى هذا التأويل صح فعل ابن الزبير، إذا عرفت هذا فنقول : إذا تناول شيئاً قليلاً ولو قطرة من الماء، فعلى ذلك هو بالخيار في الإستيفاء إلا أن يخاف المرء من التقصير في صوم المستأنف، أو في سائر العبادات، فيلزم حينئذ أن يتناول من الطعام قدراً يزول به هذا الخوف.
المسألة الثانية : اختلفوا في أن الليل ما هو ؟
فمن الناس من قال : آخر النهار على أوله، فاعتبروا في حصول الليل زوال آثار الشمس، كما حصل اعتبار زوال الليل عند ظهور آثار الشمس ثم هؤلاء منهم من اكتفي بزوال الحمرة، ومنهم من اعتبر ظهور الظلام التام وظهور الكواكب، إلا أن الحديث الذي رواه عمر يبطل ذلك وعليه عمل الفقهاء.
جزء : ٥ رقم الصفحة : ٢٦٧
المسألة الثالثة : الحنفية تمسكوا بهذه الآية في أن التبييت والتعيين غير معتبر في صحة الصوم، قالوا : الصوم في اللغة هو الإمساك، وقد وجد ههنا فيكون صائماً، فيجب عليه إتمامه، لقوله تعالى :﴿ثُمَّ أَتِمُّوا الصِّيَامَ إِلَى الَّيْلِ ﴾ فوجب القول بصحته، لأن الإمساك حرج ومشقة وعسر وهو منفي بقوله تعالى :﴿وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِى الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ ﴾ (الحج : ٧٨) وقوله :﴿وَلا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ﴾ (البقرة : ١٨٥) ترك العمل به في الصوم الصحيح فيبقى غير الصحيح على الأصل، ثم نقول : مقتضى هذا الدليل، أن يصح صوم / الفرض بنية بعد الزوال إلا أنا قلنا : الأقل يلحق بالأغلب فلا جرم أبطلنا الصوم بنية بعد الزوال وصححنا نيته قبل الزوال.
المسألة الرابعة : الحنفية تمسكوا بهذه الآية في أن صوم النفل يجب إتمامه قالوا : لأن قوله تعالى :﴿ثُمَّ أَتِمُّوا الصِّيَامَ إِلَى الَّيْلِ ﴾ أمر وهو للوجوب، وهو يتناول كل الصيامات، والشافعية قالوا : هذا إنما ورد لبيان أحكام صوم الفرض، فكان المراد منه صوم الفرض.
الحكم السابع
من الأحكام المذكورة في هذه السورة الاعتكاف
قوله تعالى :﴿وَلا تُبَـاشِرُوهُنَّ وَأَنتُمْ عَـاكِفُونَ فِي الْمَسَـاجِدِ ﴾.
اعلم أنه تعالى لما بين الصوم، وبين أن من حكمه تحريم المباشرة، كان يجوز أن يظن في الإعتكاف أن حاله كحال الصوم في أن الجماع يحرم فيه نهاراً لا ليلاً، فبين تعالى تحريم المباشرة فيه نهاراً وليلاً، فقال :﴿وَلا تُبَـاشِرُوهُنَّ وَأَنتُمْ عَـاكِفُونَ فِي الْمَسَـاجِدِ ﴾ ثم في الآية مسائل :