المسألة الأولى : قال الشافعي رضي الله عنه : الإعتكاف اللغوي ملازمة المرء للشيء وحبس نفسه عليه، براً كان أو إثماً، قال تعالى :﴿يَعْكُفُونَ عَلَى ا أَصْنَامٍ لَّهُمْ ﴾ (الأعراف : ١٣٨) والإعتكاف الشرعي : المكث في بيت الله تقرباً إليه، وحاصله راجع إلى تقييد اسم الجنس بالنوع بسبب العرف، وهو من الشرائع القديمة، قال الله تعالى :﴿طَهِّرَا بَيْتِىَ لِلطَّآئِفِينَ وَالْعَـاكِفِينَ﴾ (البقرة : ١٢٥) وقال تعالى :﴿وَلا تُبَـاشِرُوهُنَّ وَأَنتُمْ عَـاكِفُونَ فِي الْمَسَـاجِدِ ﴾.
جزء : ٥ رقم الصفحة : ٢٦٧
المسألة الثانية : لو لمس الرجل المرأة بغير شهوة جاز، لأن عائشة رضي الله عنها كانت ترجل رسول الله صلى الله عليه وسلّم وهو معتكف، أما إذا لمسها بشهوة، أو قبلها، أو باشرها فيما دون الفرج، فهو حرام على المعتكف، وهو يبطل بها اعتكافه ؟
للشافعي رحمه الله فيه قولان : الأصح أنه يبطل، وقال أبو حنيفة، لا يفسد الإعتكاف إذا لم ينزل، احتج من قال بالإفساد أن الأصل في لفظ المباشرة ملاقاة البشرتين، فقوله :﴿وَلا تُبَـاشِرُوهُنَّ﴾ منع من هذه الحقيقة، فيدخل فيه الجماع وسائر هذه الأمور، لأن مسمى المباشرة حاصل في كلها.
فإن قيل : لم حملتم المباشرة في الآية المتقدمة على الجماع ؟
قلنا : لأن ما قبل الآية يدل على أنه هو الجماع، وهو قوله :﴿أُحِلَّ لَكُمْ لَيْلَةَ الصِّيَامِ الرَّفَثُ﴾ وسبب نزول تلك الآية يدل على أنه هو الجماع، ثم لما أذن في الجماع كان ذلك إذناً فيما دون الجماع بطريق الأولى، أما ههنا فلم يوجد شيء من هذه القرائن، فوجب إبقاء لفظ المباشرة على موضعه الأصلي وحجة من قال : إنها لا تبطل الإعتكاف، أجمعنا على أن هذه المباشرة لا تفسد الصوم والحج، / فوجب أن لا تفسد الإعتكاف لأن الاعتكاف ليس أعلى درجة منهما والجواب : أن النص مقدم على القياس.
المسألة الثالثة : اتفقوا على أن شرط الإعتكاف ليس الجلوس في المسجد وذلك لأن المسجد مميز عن سائر البقاع من حيث إنه بني لإقامة الطاعات فيه، ثم اختلفوا فيه فنقل عن علي رضي الله عنه أنه لا يجوز إلا في المسجد الحرام والحجة فيه قوله تعالى :﴿أَن طَهِّرَا بَيْتِىَ لِلطَّآئِفِينَ وَالْعَـاكِفِينَ﴾ (البقرة : ١٢٥) فبين ذلك البيت لجميع العاكفين، ولو جاز الإعتكاف في غيره لما صح ذلك العموم وقال عطاء : لا يجوز إلا في المسجد الحرام ومسجد المدينة، لما روى عبد الله بن الزبير أن النبي صلى الله عليه وسلّم قال :"صلاة في مسجدي هذا أفضل من ألف صلاة فيما سواه من المساجد إلا المسجد الحرام وصلاة في المسجد الحرام أفضل من مائة صلاة في مسجدي" وقال حذيفة : يجوز في هذين المسجدين وفي مسجد بيت المقدس لقوله عليه الصلاة والسلام :"لا تشد الرحال إلا إلى ثلاثة مساجد المسجد الحرام، والمسجد الأقصى، ومسجدي هذا" وقال الزهري : لا يصح إلا في الجامع وقال أبو حنيفة : لا يصح إلا في مسجد له إمام راتب ومؤذن راتب، وقال الشافعي رضي الله عنه : يجوز في جميع المساجد، إلا أن المسجد الجامع أفضل حتى لا يحتاج إلى الخروج لصلاة الجمعة، واحتج الشافعي رضي الله عنه بهذه الآية لأن قوله :﴿وَلا تُبَـاشِرُوهُنَّ وَأَنتُمْ عَـاكِفُونَ فِي الْمَسَـاجِدِ ﴾ عام يتناول كل المساجد.
جزء : ٥ رقم الصفحة : ٢٦٧
المسألة الرابعة : يجوز الإعتكاف بغير صوم والأفضل أن يصوم معه، وقال أبو حنيفة لا يجوز إلا بالصوم، حجة الشافعي رضي الله عنه هذه الآية، لأنه بغير الصوم عاكف والله تعالى منع العاكف من مباشرة المرأة ولو كان إعتكافه باطلاً لما كان ممنوعاً ترك العمل بظاهر اللفظ إذا ترك النية فيبقى فيما عداه على الأصل واحتج المزني بصحة قول الشافعي رضي الله عنهما بأمور ثلاثة الأول : لو كان الإعتكاف يوجب الصوم لما صح في رمضان، لأن الصوم الذي هو موجبه إما صوم رمضان وهو باطل لأنه واجب بسبب الشهر لا بسبب الاعتكاف، أو صوم آخر سوى صوم رمضان، وذلك ممتنع وحيث أجمعوا على أنه يصح في رمضان، علمنا أن الصوم لا يوجبه الإعتكاف والثاني : أنه لو كان الإعتكاف لا يجوز إلا مقارناً بالصوم لخرج الصائم بالليل عن الإعتكاف لخروجه فيه عن الصوم، ولما كان الأمر بخلاف ذلك، علمنا أن الإعتكاف يجوز مفرداً أبداً بدون الصوم والثالث : ما روى ابن عمر رضي الله عنه قال : يا رسول الله إني نذرت في الجاهلية أن أعتكف الله ليلة فقال عليه الصلاة والسلام : أوف بنذرك ومعلوم أنه لا يجوز الصوم في الليل.