المسألة الثالثة : قوله تعالى :﴿وَلَـاكِنَّ الْبِرَّ مَنِ اتَّقَى ﴾ تقديره : ولكن البر بر من اتقى فهو / كقوله :﴿وَلَـاكِنَّ الْبِرَّ مَنْ ءَامَنَ بِاللَّهِ﴾ (البقرة : ١٧٧) وقد تقدم تقريره.
المسألة الرابعة : قرأ حمزة والكسائي وأبو بكر عن عاصم، وقالون عن نافع البيوت : بكسر الباء لأنهم استثقلوا الخروج من ضمة باء إلى ياء، والباقون بالضم على الأصل وللقراء فيها وفي نظائرها نحو بيوت، وعيون، وجيوب : مذاهب واختلافات يطول تفصيلها.
أما قوله :﴿وَاتَّقُوا اللَّهَ﴾ فقد بينا دخول كل واجب واجتناب كل محرم تحته ﴿لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ﴾ لكي تفلحوا، والفلاح هو الظفر بالبغية، قالت المعتزلة : وهذا يدل على إرادته تعالى الفلاح من جميعهم، لأنه لا تخصيص في الآية والله أعلم.
الحكم العاشر
ما يتعلق بالقتال
جزء : ٥ رقم الصفحة : ٢٨٠
٢٨٧
وفي الآية مسائل :
المسألة الأولى : أنه تعالى أمر بالإستقامة في الآية المتقدمة بالتقوى في طريق معرفة الله تعالى فقال :﴿وَلَيْسَ الْبِرُّ بِأَن تَأْتُوا الْبُيُوتَ مِن ظُهُورِهَا وَلَـاكِنَّ الْبِرَّ مَنِ اتَّقَى ا وَأْتُوا الْبُيُوتَ مِنْ أَبْوَابِهَا ﴾ (البقرة : ١٨٩) وأمر بالتقوى في طريق طاعة الله، وهو عبارة عن ترك المحظورات وفعل الواجبان فالإستقامة علم، والتقوى عمل، وليس التكليف إلا في هذين، ثم لما أمر في هذه الآية بأشد أقسام التقوى وأشقها على النفس، وهو قتل أعداء الله فقال :﴿وَقَـاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ﴾.
المسألة الثانية : في سبب النزول قولان الأول : قال الربيع وابن زيد : هذه الآية أول آية نزلت في القتال، فلما نزلت كان رسول الله صلى الله عليه وسلّم يقاتل من قاتل، ويكف عن قتال من تركه، وبقي على هذه الحالة إلى أن نزل قوله تعالى :﴿فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ﴾ (التوبة : ٥).
والقول الثاني : أنه عليه الصلاة والسلام خرج بأصحابه لإرادة الحج ونزل الحديبية وهو موضع كثير الشجر والماء فصدهم المشركون عن دخول البيت فأقام شهراً لا يقدر على ذلك ثم صالحوه على أن يرجع ذلك العام ويعود إليهم في العام القابل، ويتركون له مكة ثلاثة أيام حتى يطوف وينحر الهدي ويفعل ما شاء، فرضي رسول الله صلى الله عليه وسلّم بذلك وصالحهم عليه، / ثم عاد إلى المدينة وتجهز في السنة القابلة، ثم خاف أصحابه من قريش أن لا يفوا بالوعد ويصدوهم عن المسجد الحرام وأن يقاتلوهم، وكانوا كارهين لمقاتلتهم في الشهر الحرام وفي الحرم، فأنزل الله تعالى هذه الآيات، وبين لهم كيفية المقاتلة إن احتاجوا إليها، فقال :﴿وَقَـاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ﴾.
المسألة الثالثة :﴿وَقَـاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ﴾ أي في طاعته وطلب رضوانه، روى أبو موسى أن النبي صلى الله عليه وسلّم سئل عمن يقاتل في سبيل الله، فقال : هو من قاتل لتكون كلمة الله هي العليا، ولا يقاتل رياء ولا سمعة.
المسألة الرابعة : اختلفوا في المراد بقوله :﴿الَّذِينَ يُقَـاتِلُونَكُمْ﴾ على وجوه أحدها : وهو قول ابن عباس، المراد منه : قاتلوا الذين يقاتلونكم إما على وجه الدفع عن الحج، أو على وجه المقاتلة ابتداء، وهذا الوجه موافق لما رويناه عن ابن عباس في سبب نزول هذه الآية وثانيها : قاتلوا كل من له قدرة وأهلية على القتال وثالثها : قاتلوا كل من له قدرة على القتال وأهلية كذلك سوى من جنح للسلم، قال تعالى :﴿وَإِن جَنَحُوا لِلسَّلْمِ فَاجْنَحْ لَهَا﴾ (الأنفال : ٦١) واعلم أن القول الأول أقرب إلى الظاهر لأن ظاهر قوله تعالى :﴿الَّذِينَ يُقَـاتِلُونَكُمْ﴾ يقتضي كونهم فاعلين للقتال، فأما المستعد للقتال والمتأهل له قبل إقدامه عليه، فإنه لا يوصف بكونه مقاتلاً إلا على سبيل المجاز.
جزء : ٥ رقم الصفحة : ٢٨٧
المسألة الخامسة : من الناس من قال : هذه الآية منسوخة، وذلك لأن هذه الآية دلت على أن الله تعالى أوجب قتال المقاتلين، ونهى عن قتال غير المقاتلين، بدليل أنه قال :﴿وَقَـاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ الَّذِينَ يُقَـاتِلُونَكُمْ﴾ ثم بعده : ولا تعتدوا هذا القدر، ولا تقاتلوا من لا يقاتلكم فثبت أن هذه الآية مانعة من قتال غير المقاتلين، ثم قال تعالى بعد ذلك :﴿وَاقْتُلُوهُمْ حَيْثُ ثَقِفْتُمُوهُمْ﴾ (البقرة : ١٩١) فاقتضي هذا حصول الأول في قتال من لم يقاتل، فدل على أن هذه الآية منسوخة/ ولقائل أن يقول : نسلم أن هذه الآية دالة على الأمر بقتال من لم يقاتلنا، لكن هذا الحكم ما صار منسوخاً.