أما قوله : إنها دالة على المنع من قتال من لم يقاتلنا، فهذا غير مسلم، وأما قوله تعالى :﴿وَلا تَعْتَدُوا ﴾ فهذا يحتمل وجوها أخر سوى ما ذكرتم، منها أن يكون المعنى : ولا تبدؤا في الحرم بقتال، ومنها أن يكون المراد : ولا تعتدوا بقتال من نهيتم عن قتاله من الذين بينكم وبينهم عهد، أو بالحيلة أو بالمفاجأة من غير تقديم دعوة، أو بقتل النساء والصبيان والشيخ الفاني، وعلى جميع هذه التقديرات لا تكون الآية منسوخة.
فإن قيل : هب أنه لا نسخ في الآية، ولكن ما السبب في أن الله تعالى أمر أولا بقتال من يقاتل، ثم في آخر الأمر أذن في قتالهم سواء قاتلوا أو لم يقاتلوا.
قلنا : لأن في أول الأمر كان المسلمون قليلين، فكان الصلاح استعمال الرفق واللين والمجاملة، فلما قوي الإسلام وكثر الجمع، وأقام من أقام منهم على الشرك، بعد ظهور المعجزات وتكررها / علهم حالا بعد حال، حصل اليأس من إسلامهم، فلا جرم أمر الله تعالى بقتالهم على الإطلاق.
المسألة السادسة : المعتزلة احتجوا بقوله تعالى :﴿إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ﴾ قالوا : لو كان الإعتداء بإرادة الله تعالى وبتخليقه لما صح هذا الكلام، وجوابه قد تقدم والله أعلم.
جزء : ٥ رقم الصفحة : ٢٨٧
٢٨٨
وفيه مسائل :
المسألة الأولى : الثقف وجوده على وجه الأخذ والغلبة ومنه رجل ثقيف سريع الأخذ لأقرانه، قال :
فأما تثقفوني فاقتلوني
فمن أثقف فليس إلى خلود
ثم نقول قوله تعالى : الخطاب فيه واقع على النبي صلى الله عليه وسلّم ومن هاجر معه وإن كان الغرض به لازما لكل مؤمن، والضمير في قوله : عائد إلى الذين أمر بقتلهم في الآية الأولى وهم الكفار من أهل مكة، فأمر الله تعالى بقتلهم حيث كانوا في الحل والحرم، وفي الشهر الحرام، وتحقيق القول أنه تعالى أمر بالجهاد في الآية الأولى بشرط إقدام الكفار على المقاتلة، وفي هذه زاد في التكليف فأمر بالجهاد معهم سواء قاتلوا أو لم يقاتلوا، واستثنى منه المقاتلة عند المسجد الحرام.
المسألة الثانية : نقل عن مقاتل أنه قال : إن الآية المتقدمة على هذه الآية، وهي قوله :﴿وَقَـاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ الَّذِينَ يُقَـاتِلُونَكُمْ﴾ (البقرة : ١٩٠) منسوخة بقوله تعالى :﴿وَلا تُقَـاتِلُوهُمْ عِندَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ﴾ ثم تلك الآية منسوخة بقوله تعالى :﴿وَقَـاتِلُوهُمْ حَتَّى لا تَكُونَ فِتْنَةٌ﴾ (البقرة : ١٩٣) وهذا الكلام ضعيف.
أما قوله : إن قوله تعالى :﴿وَقَـاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ الَّذِينَ يُقَـاتِلُونَكُمْ﴾ منسوخ بهذه الآية، فقد / تقدم إبطاله، وأما قوله : إن هذه الآية منسوخة بقوله تعالى :﴿وَلا تُقَـاتِلُوهُمْ عِندَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ﴾ فهذا من باب التخصيص لا من باب النسخ، وأما قوله :﴿وَلا تُقَـاتِلُوهُمْ عِندَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ﴾ منسوخ بقوله :﴿وَقَـاتِلُوهُمْ حَتَّى لا تَكُونَ فِتْنَةٌ﴾ فهو خطأ أيضاً لأنه لا يجوز الابتداء بالقتال في الحرم، وهذا الحكم ما نسخ بل هو باق فثبت أن قوله ضعيف ولأنه يبعد من الحكيم أن يجمع بين آيات متوالية تكون كل واحدة منها ناسخة للأخرى.
جزء : ٥ رقم الصفحة : ٢٨٨
أما قوله تعالى :﴿وَأَخْرِجُوهُم مِّنْ حَيْثُ أَخْرَجُوكُمْ ﴾ ففيه بحثان :
البحث الأول : أن الإخراج يحتمل وجهين أحدهما : أنهم كلفوهم الخروج قهراً والثاني : أنهم بالغوا في تخويفهم وتشديد الأمر عليهم، حتى صاروا مضطرين إلى الخروج.
البحث الثاني : أن صيغة ﴿حَيْثُ﴾ تحتمل وجهين أحدهما : أخرجوهم من الموضع الذي أخرجوكم وهو مكة والثاني : أخرجوهم من منازلكم، إذا عرفت هذا فنقول : أن الله تعالى أمر المؤمنين بأن يخرجوا أولئك الكفار من مكة إن أقاموا على شركهم إن تمكنوا منه، لكنه كان في المعلوم أنهم يتمكنون منه فيما بعد، ولهذا السبب أجلى رسول الله صلى الله عليه وسلّم كل مشرك من الحرم. ثم أجلاهم أيضاً من المدينة، وقال عليه الصلاة والسلام :"لا يجتمع دينان في جزيرة العرب".


الصفحة التالية
Icon