قلنا : هذا وإن كان حسناً لهذا الغرض، إلا أنه مع ذلك يلزم عطف الشيء على نفسه، أما إذا لم يكن المحصر مفسراً بالمريض، لم يلزم عطف الشيء على نفسه، فكان حمل المحصر على غير المريض يوجب خلو الكلام عن هذا الاستدلال، فكان ذلك أولى.
الحجة السادسة : قال تعالى في آخر الآية :﴿فَإِذَآ أَمِنتُمْ فَمَن تَمَتَّعَ بِالْعُمْرَةِ إِلَى الْحَجِّ﴾ ولفظ الأمن إنما يستعمل في الخوف من العدو لا في المرض، فإنه يقال في المرض : شفي وعفي ولا يقال أمن.
فإن قيل : لا نسلم أن لفظ الأمن لا يستعمل إلا في الخوف، فإنه يقال : أمن المريض من الهلاك وأيضاً خصوص آخر الآية لا يقدح في عموم أولها.
قلنا : لفظ الأمن إذا كان مطلقاً غير مقيد فإنه لا يفيد إلا الأمن من العدو، وقوله خصوص آخر الآية لا يمنع من عموم أولها.
قلنا : بل يوجب لأن قوله :﴿فَإِذَآ أَمِنتُمْ﴾ ليس فيه بيان أنه حصل الأمن مماذا، فلا بد وأن يكون المراد حصول الأمن من شيء تقدم ذكره، والذي تقدم ذكره هو الاحصار، فصار التقدير : فإذا أمنتم من ذلك الاحصار، ولما ثبت أن لفظ الأمن لا يطلق إلا في حق العدو، وجب أن يكون المراد من هذا الاحصار منع العدو، فثبت بهذه الدلائل أن الإحصار المذكور في الآية هو منع العدو فقط، أما قول من قال : إنه منع المرض صاحبه خاصة فهو باطل بهذه الدلائل، وفيه دليل آخر، وهو أن المفسرين أجمعوا على أن سبب نزول هذه الآية أن الكفار أحصروا النبي / صلى الله عليه وسلّم بالحديبية، والناس وإن اختلفوا في أن الآية النازلة في سبب هل تتناول غير ذلك السبب ؟
إلا أنهم اتفقوا على أنه لا يجوز أن يكون ذلك السبب خارجاً عنه، فلو كان الإحصار اسماً لمنع المرض، لكان سبب نزول الآية خارجاً عنها، وذلك باطل بالإجماع، فثبت بما ذكرنا أن الإحصار في هذه الآية عبارة عن منع العدو، وإذا ثبت هذا فنقول : لا يمكن قياس منع المرض عليه، وبيانه من وجهين : الأول : أن كلمة : إن، شرط عند أهل اللغة، وحكم الشرط انتفاء المشروط عن انتفائه ظاهراً، فهذا يقتضي أن لا يثبت الحكم إلا في الإحصار الذي دلت الآية عليه، فلو أثبتا هذا الحكم في غيره قياساً كان ذلك نسخا للنص بالقياس، وهو غير جائز.
الوجه الثاني : أن الإحرام شرع لازم لا يحتمل النسخ قصدا، ألا ترى أنه إذا جامع امرأته حتى فسد حجه لم يخرج من إحرامه، وكذلك لو فاته الحج حتى لزمه القضاء والمرض ليس كالعدو، ولأن المريض لا يستفيد بتحلله ورجوعه أمنا من مرضه، أما المحصر بالعدو فإنه خائف من القتل إن أقام، فإذا رجع فقد تخلص من خوف القتل، فهذا ما عندي في هذه المسألة على ما يليق بالتفسير.
جزء : ٥ رقم الصفحة : ٢٩٣
أما قوله :﴿فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْىِ ﴾ ففيه مسائل :
المسألة الأولى : قال القفال رحمه الله : في الآية إضمار، والتقدير : فحللتم فما استيسر، وهو كقوله :﴿فَمَن كَانَ مِنكُم مَّرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِّنْ أَيَّامٍ أُخَرَ ﴾ (البقرة : ١٨٤) أي فأفطر فعدة، وفيها إضمار آخر، وذلك لأن قوله :﴿فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْىِ ﴾ كلام غير تنام لا بد فيه من إضمار، ثم فيه احتمالان : أحدهما : أن يقال : محل، ما : رفع، والتقدير : فواجب عليكم ما استيسر والثاني : قال الفراء : لو نصبت على معنى : اهدوا ما تيسر كان صواباً، وأكثر ما جاء في القرآن من أشباهه مرفوع.
المسألة الثانية :﴿اسْتَيْسَرَ﴾ بمعنى تيسر، ومثله : استعظم، أي تعظم واستكبر : أي تكبر، واستصعب : أي تصعب.
المسألة الثالثة :﴿الْهَدْىِ ﴾ جمع هدية، كما تقول : تمر وتمرة، قال أحمد بن يحيى : أهل الحجاز يخففون ﴿الْهَدْىِ ﴾ وتميم تثقله، فيقولون : هدية، وهدي ومطية، ومطي، قال الشاعر :
حلفت برب مكة والمصلى
وأعناق الهدى مقلدات
ومعنى الهدي : ما يهدى إلى بيت الله عز وجل تقرباً إليه، بمنزلة الهدية يهديها الإنسان إلى غيره تقرباً إليه/ ثم قال علي وابن عباس والحسن وقتادة : الهدي أعلاه بدنة، وأوسطه بقرة، وأخسه شاة، فعليه ما تيسر من هذه الأجناس.
المسألة الرابعة : المحصر إذا كان عالما بالهدي، هل له بدل ينتقل إليه ؟
للشافعي رضي الله عنه فيه قولان : أحدهما : لا بدل له ويكون الهدي في ذمته أبدا، وبه قال أبو حنيفة رضي الله عنه، / والحجة في أنه تعالى أوجب على المحصر الهدي على التعيين، وما أثبت له بدلاً والثاني : أن له بدلاً ينتقل إليه، وهو قول أحمد فإذا قلنا بالقول الأول : هل له أن يتحلل في الحال أو يقيم على إحرامه فيه قولان أحدهما : أنه يقيم على إحرامة حتى يجده، وهو قول أبي حنيفة ويدل عليه ظاهر الآية والثاني : أن يتحلل في الحال للمشقة، وهو الأصح، فإذا قلنا بالقول الثاني ففيه اختلافات كثيرة وأقربها أن يقال : يقوم الهدي بالدراهم ويشتري بها طعام ويؤدي، وإنما قلنا ذلك لأنه أقرب إلى الهدي.
المسألة الخامسة : المحصر إذا أراد التحلل وذبح، وجب أن ينوي التحلل عند الذبح، ولا يتحلل البتة قبل الذبح.


الصفحة التالية
Icon