جزء : ٥ رقم الصفحة : ٢٩٣
المسألة السادسة : اختلفوا في العمرة فأكثر الفقهاء قالوا حكمها في الإحصار كحكم الحج وعن ابن سيرين أنه لا إحصار فيه لأنه غير مؤقت، وهذا باطل لأن قوله تعالى :﴿فَإِنْ أُحْصِرْتُمْ﴾ مذكور عقيب الحج والعمرة، فكان عائداً إليهما.
أما قوله تعالى :﴿وَلا تَحْلِقُوا رُءُوسَكُمْ حَتَّى يَبْلُغَ الْهَدْىُ مَحِلَّه ﴾ ففيه مسائل :
المسألة الأولى : في الآية حذف لأن الرجل لا يتحلل ببلوغ الهدي محله بل لا يحصل التحلل إلا بالنحر فتقدير الآية : حتى يبلغ الهدي محله وينحر فإذا نحر فاحلقوا.
المسألة الثانية : قال الشافعي رضي الله تعالى عنه : يجوز إراقة دم الإحصار لا في الحرم، بل حيث حبس، وقال أبو حنيفة رضي الله تعالى عنه : لا يجوز ذلك إلا في الحرم ومنشأ الخلاف البحث في تفسير هذه الآية، فقال الشافعي رضي الله تعالى عنه : المحل في هذه الآية اسم للزمان الذي يحصل فيه التحلل، وقال أبو حنيفة : إنه اسم للمكان.
حجة الشافعي رضي الله تعالى عنه من وجوه الأول : إنه عليه الصلاة والسلام أحصر بالحديبية ونحر بها، والحديبية ليست من الحرم، قال أصحاب أبي حنيفة إنه إنما أصحر في طرف الحديبية الذي هو أسفل مكة، وهو من الحرم، قال الواقدي : الحديبية على طرف الحرم على تسعة أميال من مكة، أجاب القفال رحمه الله في "تفسيره" عن هذا السؤال فقال الدليل على أن نحر ذلك الهدي ما وقع في الحرم قوله تعالى :﴿هُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوكُمْ عَنِ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَالْهَدْىَ مَعْكُوفًا أَن يَبْلُغَ مَحِلَّه ﴾ (الفتح : ٢٥) فبين تعالى أن الكفار منعوا النبي صلى الله عليه وسلّم عن إبلاغ الهدي محله الذي كان يريده فدل هذا على أنهم نحروا ذلك الهدي في غير الحرم.
الحجة الثانية : أن المحصر سواء كان في الحل أو في الحرم فهو مأمور بنحر الهدي فوجب أن يتمكن في الحل والحرم من نحر الهدى.
بيان المقام الأول : أن قوله :﴿فَإِنْ أُحْصِرْتُمْ﴾ يتناول كل من كان محصراً سواء كان في الحل / أو في الحرم، وقوله بعد ذلك :﴿فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْىِ ﴾ معناه فما استيسر من الهدي نحوه واجب، أو معناه فانحروا فانحروا ما استيسر من الهدي، وعلى التقديرين ثبت أن هذه الآية دالة على أن نحر الهدي واجب على المحصر سواء كان محصراً في الحل أو في الحرم، وإذا ثبت هذا وجب أن يكون له الذبح في الحل والحرم، لأن المكلف بالشيء أول درجاته أن يجوز له فعل المأمور به، وإذا كان كذلك وجب أن يكون المحصر قادراً على إراقة الدم حيث أحصر.
جزء : ٥ رقم الصفحة : ٢٩٣
الحجة الثالثة : أن الله سبحانه إنما مكن المحصر من التحلل بالذبح ليتمكن من تخليص النفس عن خوف العدو في الحال/ فلو لم يجز النحر إلا في الحرم وما لم يحصل النحر لا يحصل التحلل بدلالة الآية، فعلى هذا التقدير وجب أن لا يحصل التحلل في الحال، وذلك يناقض ما هو المقصود من شرع هذا الحكم، ولأن الموصل للنحر إلى الحرم إن كان هو فقد نفى الخوف، وكيف يؤمن بهذا الفعل من قيام الخوف وإن كان غيره فقد لا يجد ذلك الغير فماذا يفعل ؟
حجة أبي حنيفة رضي الله عنه من وجوه الأول : أن المحل بكسر عين الفعل عبارة عن المكان، كالمسجد والمجلس فقوله :﴿حَتَّى يَبْلُغَ الْهَدْىُ مَحِلَّه ﴾ يدل على أنه غير بالغ في الحال إلى مكان الحل، وهو عندكم بالغ محله في الحال/
جوابه : المحل عبارة عن الزمان وأن من المشهور إن محل الدين هو وقت وجوبه الثاني : هب أن لفظ المحل يحتمل المكان والزمان إلا أن الله تعالى أزال هذا الإحتمال بقوله ﴿ثُمَّ مَحِلُّهَآ إِلَى الْبَيْتِ الْعَتِيقِ﴾ (الحج : ٣٣) وفي قوله :﴿هَدْيَا بَـالِغَ الْكَعْبَةِ﴾ (المائدة : ٩٥) ولا شك أن المراد منه الحرم فإن البيت عينه لا يراق فيه الدماء.
جوابه : قال الشافعي رضي الله عنه : كل ما وجب على المحرم في ماله من بدنة وجزاء هدي فلا يجزي إلا في الحرم لمساكين أهله إلا في موضعين أحدهما : من ساق هديا فعطف في طريقه ذبحه وخلى بينه وبين المساكين والثاني : دم المحصر بالعدو فإنه ينحر حيث حبس، فالآيات التي ذكرتموها في سائر الدماء فلم قلتم إنها تتناول هذه الصورة الثالث : قالوا : الهدي سمي هدياً لأنه جار مجرى الهدية التي يبعثها العبد إلى ربه، والهدية لا تكون هدية إلا إذا بعثها المهدي إلى دار المهدى إليه وهذا المعنى لا يتصور إلا بجعل موضع الهدي هو الحرم.
جوابه : هذا التمسك بالاسم ثم هو محمول على الأفضل عند القدرة الرابع : أن سائر دماء الحج كلها قربة كانت أو كفارة لا تصح إلا في الحرم، فكذا هذا.
جوابه : أن هذا الدم إنما وجب لإزالة الخوف وزوال الخوف إنما يحصل إذا قدر عليه حيث أحصر، أما لو وجب إرساله إلى الحرم لا يحصل هذا المقصود، وهذا المعنى غير موجود في سائر الدماء فظهر الفرق.