المسألة الأولى : معنى التمتع التلذذ، يقال : تمتع بالشيء أي تلذذ به، والمتاع : كل شيء يتمتع به، وأصله من قولهم : حبل ماتع أي طويل، وكل من طالت صحبته مع الشيء فهو متمتع به، والمتمتع بالعمرة إلى الحج هو أن يقدم مكة فيعتمر في أشهر الحج، ثم يقيم بمكة حلالاً ينشىء منها الحج، فيحج من عامه ذلك، وإنما سمي متمتعاً لأنه يكون مستمتعاً بمحظورات الإحرام فيما بين تحلله من العمرة إلى إحرامه بالحج، والتمتع على هذا الوجه صحيح لا كراهة فيه، وههنا نوع آخر من التمتع مكروه، وهو الذي حذر عنه عمر رضي الله عنه وقال : متعتان كانتا على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلّم وأنا أنهي عنهما وأعاقب عليهما : متعة النساء ومتعة الحج، والمراد من هذه المتعة أن يجمع بين الإحرامين ثم يفسخ الحج إلى العمرة ويتمتع بها إلى الحج، وروي أن رسول الله صلى الله عليه وسلّم أذن لأصحابه في ذلك ثم نسخ، روي عن أبي ذر أنه قال : ما كانت متعة الحج إلا لي خاصة، فكان السبب فيه أنهم كانوا لا يرون العمرة في أشهر الحج ويعدونها من أفجر الفجور فلما أراد رسول الله صلى الله عليه وسلّم إبطال ذلك الإعتقاد عليهم بالغ فيه بأن نقلهم في أشهر الحج من الحج إلى العمرة وهذا سبب لا يشاركهم فيه غيرهم، فلهذا المعنى كان فسخ الحج خاصاً بهم.
جزء : ٥ رقم الصفحة : ٢٩٦
المسألة الثانية : قوله تعالى :﴿فَمَن تَمَتَّعَ بِالْعُمْرَةِ﴾ أي فمن يتمتع بسبب العمرة فكأنه لا يتمتع بالعمرة ولكنه يتمتع بمحظورات الإحرام بسبب إتيانه بالعمرة، وهذا هو معنى التمتع بالعمرة إلى الحج.
أما قوله تعالى :﴿فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْىِ ﴾ ففيه مسائل :
المسألة الأولى : قال أصحابنا : لوجوب دم التمتع خمس شرائط أحدها : أن يقدم العمرة على الحج والثاني : أن يحرم بالعمرة في أشهر الحج، فإن أحرم بها قبل أشهر الحج وأتى بشيء من الطواف وإن كان شرطاً واحداً ثم أكمل باقيه في أشهر الحج وحج في هذه السنة لم يلزمه دم لأنه لم يجمع بين النسكين في أشهر الحج، وإن أحرم بالعمرة قبل أشهر الحج، وأتى بأعمالها في أشهر الحج، فيه قولان : قال في "الأم" وهو الأصح : لا يلزمه دم التمتع لأنه أتى بركن من أركان العمرة قبل أشهر الحج، كما لو طاق قبله، وقال في "القديم والإملاء" : يلزمه ذلك ويجعل استدامة الإحرام في أشهر الحج كابتدائه، وقال أبو حنيفة رضي الله عنه : إذا أتى ببعض الطواف قبل أشهر الحج فهو متمتع إذا لم يأت بأكثره الشرط الثالث : أن يحج في هذه السنة، فإن حج في سنة أخرى لا يلزمه الدم، لأنه لم يوجد مزاحمة الحج والعمرة في عام واحد الشرط الرابع : أن لا يكون من حاضري المسجد الحرام لقوله تعالى :﴿ذَالِكَ لِمَن لَّمْ يَكُنْ أَهْلُه حَاضِرِى الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ ﴾ وحاضر المسجد الحرام من كان أهله على مسافة أقل من مسافة القصر، فإن كان على مسافة القصر فليس من الحاضرين، وهذه المسافة تعتبر من مكة أو من الحرم، وفيه وجهان الشرط الخامس : أن يحرم بالحج من / جوف مكة بعد الفراغ من العمرة فإن عاد إلى الميقات فأحرم بالحج لا يلزمه دم التمتع لأن لزوم الدم لترك الإحرام من الميقات ولم يوجد، فهذه هي الشروط المعتبرة في لزوم دم التمتع.
المسألة الثانية : قال الشافعي رضي الله عنه : دم التمتع دم جبران الإساءة، فلا يجوز له أن يأكل منه، وقال أبو حنيفة رضي الله عنه : إنه دم نسك ويأكل منه، حجة الشافعي من وجوه :
الحجة الأولى : أن التمتع حصل فيه خلل فوجب أن يكون الدم دم جبران، بيان حصول الخلل فيه من وجوه ثلاثة الأول : روي أن عثمان كان ينهي عن المتعة فقال له علي رضي الله عنهما : عمدت إلى رخصة بسبب الحاجة والغربة، وذلك يدل على حصول نقص فيها الثاني : أنه تعالى سماه تمتعاً، والتمتع عبارة عن التلذذ والإرتفاع، ومبنى العبادة على المشقة، فيدل على أنه حصل في كونه عبادة نوع خلل الثالث : وهو بيان الخلل على سبيل التفصيل : أن في التمتع صار السفر للعمرة، وكان من حقه أن يكون للحج، فإن الحج الأكبر هو الحج، وأيضاً حصل الترفه وقت الإحلال بينهما وذلك خلل، وأيضاً كان من حقه جعل الميقات للحج، فإنه أعظم، فلما جعل الميقات للعمرة كان ذلك نوع خلل، وإذا ثبت كون الخلل في هذا الحج وجب جعل الدم دم جبران لا دم نسك.
جزء : ٥ رقم الصفحة : ٢٩٦
الحجة الثانية : أن الدم ليس بنسك أصلي من مناسك الحج أو العمرة كما لو أفرد بهما، وكما في حق المكي، والجمع بين العبادتين لا يوجب الدم أيضاً بدليل أن من جمع بين الصلاة والصوم والإعتكاف لا يلزمه الدم، فثبت بهذا أن هذا الدم ليس دم نسك فلا بد وأن يكون دم جبران.
الحجة الثالثة : أن الله تعالى أوجب الهدي على التمتع بلا توقيت، وكونه غير مؤقت دليل على أنه دم جبران لأن المناسك كلها مؤقتة.


الصفحة التالية
Icon