الحجة الرابعة : أن للصوم فيه مدخلاً، ودم النسك لا يبدل بالصوم، وإذا عرفت صحة ما ذكرنا فنقول : أن الله تعالى ألزم المكلف إتمام الحج في قوله :﴿وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلَّه ﴾ وقد دللنا على أن حج التمتع غير تام، فلهذا قال تعالى :﴿فَمَن تَمَتَّعَ بِالْعُمْرَةِ إِلَى الْحَجِّ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْىِ ﴾ وذلك لأن تمتعكم يوقع نقصاً في حجتكم فأجبروه بالهدي لتكمل به حجتكم فهذا معنى حسن مفهوم من سياق الآية وهو لا يتقرر إلا على مذهب الشافعي رضي الله عنه.
المسألة الثالثة : الدم الواجب بالتمتع : دم شاة جذعة من الضأن أو ثنية من المعز، ولو تشارك ستة في بقرة أو بدنة جاز، ووقت وجوبه بعدما أحرم بالحج، لأن الفاء في قوله :﴿فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْىِ ﴾ يدل على أنه وجب عقيب التمتع، ويستحب أن يذبح يوم النحر، فلو ذبح بعد ما أحرم بالحج جاز لأن التمتع قد تحقق، وعند أبي حنيفة رضي الله عنه لا يجوز، وأصل هذا أن دم التمتع عندنا دم جبران كسائر دماء الجبرانات، وعنده دم نسك كدم الأضحية فيختص / بيوم النحر.
أما قوله تعالى :﴿فَمَن لَّمْ يَجِدْ فَصِيَامُ ثَلَـاثَةِ أَيَّامٍ﴾ فالمعنى أن المتمتع إن وجد الهدي فلا كلام وإن لم يجد فقد بين الله تعالى بدله من الصيام، فلهذا الهدي أفضل أم الصيام ؟
الظاهر أن يكون المبدل الذي هو الأصل أفضل، لكنه تعالى بين في هذا البدل أنه في الكمال والثواب كالهدي وهو كقوله :﴿تِلْكَ عَشَرَةٌ كَامِلَةٌ ﴾ وفي الآية مسائل :
المسألة الأولى : الآية نص فيما إذا لم يجد الهدي، والفقهاء قاسوا عليه ما إذا وجد الهدي ولم يجد ثمنه، أو كان ماله غائباً، أو يباع بثمن غال فهنا أيضاً يعدل إلى الصوم.
جزء : ٥ رقم الصفحة : ٢٩٦
المسألة الثانية : قوله :﴿فَصِيَامُ ثَلَـاثَةِ أَيَّامٍ فِي الْحَجِّ﴾ أي فعليه ثلاثة أيام وقت اشتغاله بالحج ويتفرع عليه مسألة فقهية، وهي أن المتمتع إذا لم يجد الهدي لا يصح صومه بعد إحرام العمرة قبل إحرام الحج، وقال أبو حنيفة رحمه الله : يصح حجة الشافعي رضي الله عنه من وجوه الأول : أنه صام قبل وقته فلا يجوز كمن صام رمضان قبله، وكما إذا صام السبعة أيام قبل الرجوع وإنما قلنا : إنه صام قبل وقته، لأن الله تعالى قال :﴿فَصِيَامُ ثَلَـاثَةِ أَيَّامٍ فِي الْحَجِّ﴾ وأراد به إحرام الحج، لأن سائر أفعال الحج لا تصلح طرفاً للصوم، والإحرام يصلح فوجب حمله عليه الثاني : أن ما قبل الإحرام بالحج ليس بوقت للهدي الذي هو أفضل، فكذا لا يكون وقتاً للصوم الذي هو بدله اعتبار بسائر الأصول والإبدال، وتحقيقه أن البدل حال عدم الأصل يقوم مقامه فيصير في الحكم كأنه الأصل، فلا يجوز أن يحصل في وقت لو وجد الأصل لم يجز إذا عرفت هذا فنقول : اتفقوا على أنه يجوز بعد الشروع في الحج إلى يوم النحر والأصح أنه لا يجوز يوم النحر ولا أيام التشريق لقوله عليه الصلاة والسلام :"ولا تصوموا في هذه الأيام" والمستحب أن يصوم في أيام الحج حيث يكون يوم عرفة مفطراً.
المسألة الثالثة : اختلفوا في المراد من الرجوع في قوله :﴿إِذَا رَجَعْتُمْ ﴾ فقال الشافعي رضي الله عنه في "الجديد" : هو الرجوع إلى الأهل والوطن، وقال أبو حنيفة رضي الله عنه : المراد من الرجوع الفراغ من أعمال الحج والأخذ في الرجوع، ويتفرع عليه أنه إذا صام الأيام السبعة بعد الرجوع عن الحج، وقبل الوصية إلى بيته، لا يجزيه عند الشافعي رضي الله عنه، ويجزيه عند أبي حنيفة رحمه الله، حجة الشافعي وجوه الأول : قوله :﴿إِذَا رَجَعْتُمْ ﴾ معناه إلى الوطن، فإن الله تعالى جعل الرجوع إلى الوطن شرطاً وما لم يوجد الشرط لم يوجد المشروط والرجوع إلى الوطن لا يحصل إلا عند الانتهاء إلى الوطن فقبله لم يوجد الشرط فوجب أن لا يوجد المشروط ويتأكد ما قلنا بأنه لو مات قبل الوصول إلى الوطن لم يكن عليه شيء الثاني : ما روي عن ابن عباس قال : لما قدمنا مكة قال النبي صلى الله عليه وسلّم :"اجعلوا إهلالكم بالحج عمرة إلا من قلد الهدي" فطفنا / بالبيت وبالصفا والمروة، وأتينا النساء، ولبسنا الثياب، ثم أمرنا عشية التروية أن نهل بالحج، فلما فرغنا قال :"عليكم الهدي فإن لم تجدوا فصيام ثلاثة في الحج وسبعة إذا رجعتم إلى إمصاركم" الثالث : أن الله تعالى أسقط الصوم عن المسافر في رمضان. فصوم التمتع أخف شأناً منه.
جزء : ٥ رقم الصفحة : ٢٩٦
المسألة الرابعة : قرأ ابن أبي عبلة ﴿سَبْعَةُ﴾ بالنصب عطفاً على محل ثلاثة أيام كأنه قيل : فصيام ثلاثة أيام، كقوله :﴿أَوْ إِطْعَـامٌ فِى يَوْمٍ ذِى مَسْغَبَةٍ * يَتِيمًا﴾ (البلد : ١٤).