والثالث : قال مالك في "الموطأ" الجدال في الحج أن قريشاً كانوا يقفون عند المشعر الحرام في المزدلفة بقزح وكان غيرهم يقفون بعرفات وكانوا يتجادلون يقول هؤلاء : نحن أصوب، ويقول هؤلاء : نحن أصوب، قال الله تعالى :﴿لِّكُلِّ أُمَّةٍ جَعَلْنَا مَنسَكًا هُمْ نَاسِكُوه فَلا يُنَـازِعُنَّكَ فِى الامْرِا وَادْعُ إِلَى رَبِّكَا إِنَّكَ لَعَلَى هُدًى مُّسْتَقِيمٍ * وَإِن جَـادَلُوكَ فَقُلِ اللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا تَعْمَلُونَ﴾ الحج : ٦٧ ـ ٦٨) قال مالك هذا هو الجدال فيما يروى والله أعلم.
جزء : ٥ رقم الصفحة : ٣١٤
والرابع : قال القاسم بن محمد : الجدال في الحج أن يقول بعضهم : الحج اليوم، وآخرون يقولون : بل غداً، وذلك أنهم أمروا أن يجعلوا حساب الشهور على رؤية الأهلة، وأخرون كانوا يجعلونه على العدد فبهذا السبب كانوا يختلفون فبعضهم يقول : هذا اليوم يوم العيد وبعضهم يقول : بل غدا، فالله تعالى نهاهم عن ذلك، فكأنه قيل لهم : قد بينا لكم أن الأهلة مواقيت للناس والحج، / فاستقيموا على ذلك ولا تجادلوا فيه من غير هذه الجهة.
الخامس : قال القفال رحمه الله تعالى : يدخل في هذا النهي ما جادلوا فيه رسول الله صلى الله عليه وسلّم حين أمرهم بفسخ الحج إلى العمرة فشق عليهم ذلك وقالوا : نروح إلى منى ومذاكيرنا تقطر منيا ؟
فقال عليه الصلاة والسلام :"لو استقبلت من أمري ما استدبرت ما سقت الهدي ولجعلتها عمرة" وتركوا الجدال حينئذ.
السادس : قال عبد الرحمن بن زيد : جدالهم في الحج بسبب اختلافهم في أيهم المصيب في الحج لوقت إبراهيم عليه الصلاة والسلام.
السابع : أنهم كانوا مختلفين في السنين فقيل لهم : لا جدال في الحج فإن الزمان استدار وعاد إلى ما كان عليه الحج في وقت إبراهيم عليه السلام، وهو المراد بقوله عليه الصلاة والسلام في حجة الوداع :"ألا إن الزمان قد استدار كهيئته يوم خلق الله السموات والأرض" فهذا مجموع ما قاله المفسرون في هذا الباب.
وذكر القاضي كلاما حسناً في هذا المواضع فقال : قوله تعالى :﴿فَلا رَفَثَ وَلا فُسُوقَ وَلا جِدَالَ فِي الْحَجِّ ﴾ يحتمل أن يكون خبراً وأن يكون نهياً كقوله :﴿لا رَيْبَا فِيه ﴾ آل عمران : ٩) أي لا ترتابوا فيه، وظاهر اللفظ للخبر فإذا حملناه على الخبر كان معناه أن الحج لا يثبت مع واحدة من هذه الخلال بل يفسد لأنه كالضد لها وهي مانعة من صحته، وعلى هذا الوجه لا يستقيم المعنى، إلا أن يراد بالرفث الجماع المفسد للحج، ويحمل الفسوق على الزنا لأنه يفسد الحج، ويحمل الجدال على الشك في الحج ووجوبه لأن ذلك يكون كفراً فلا يصح معه الحج وإنما حملنا هذه الألفاظ الثلاثة على هذه المعاني حتى يصح خبر الله بأن هذه الأشياء لا توجد مع الحج، فإن قيل : أليس أن مع هذه الأشياء يصير الحج فاسداً ويجب على صاحبه المضي فيه، وإذا كان الحج باقياً معها لم يصدق الخبر بأن هذه الأشياء لا توجد مع الحج، قلنا : المراد من الآية حصول المضادة بين هذه الأشياء وبين الحجة التي أمر الله تعالى بها ابتداء وتلك الحجة الصحيحة لا تبقى مع هذه الأشياء بدليل أنه يجب قضاؤها، والحجة الفاسدة التي يجب عليه المضي فيها شيء آخر سوى تلك الحجة التي أمر الله تعالى بها ابتداء، وأما الجدال الحاصل بسبب الشك في وجوب الحج فظاهر أنه لا يبقى معه عمل الحج لأن ذلك كفر وعمل الحج مشروط بالإسلام فثبت أنا إذا حملنا اللفظ على الخبر وجب حمل الرفث والفسوق والجدال على ما ذكرناه/ أما إذا حملناه على النهي وهو في الحقيقة عدول عن ظاهر اللفظ فقد يصح أن يراد بالرفث الجماع ومقدماته وقول الفحش، وأن يراد بالفسوق جميع أنواعه، وبالجدال جميع أنواعه، لأن اللفظ مطلق ومتناول لكل هذه الأقسام فيكون النهي عنها نهياً عن جميع أقسامها، وعلى هذا الوجه تكون هذه الآية كالحث على الأخلاق الجميلة، والتمسك بالآداب الحسنة، والاحتراز عما / يحبط ثواب الطاعات.
جزء : ٥ رقم الصفحة : ٣١٤