المسألة الثالثة : الحكمة في أن الله تعالى ذكر هذه الألفاظ الثلاثة لا أزيد ولا أنقص، وهو قوله :﴿فَلا رَفَثَ وَلا فُسُوقَ وَلا جِدَالَ فِي الْحَجِّ ﴾ هي أنه قد ثبت في العلوم العقلية أن الإنسان فيه قوى أربعة : قوة شهوانية بهيمية، وقوة غضبية سبعية، وقوة وهمية شيطانية، وقوة عقلية ملكية، والمقصود من جميع العبادات قهر القوى الثلاثة، أعني الشهوانية، والغضبية، والوهمية، فقوله ﴿فَلا رَفَثَ﴾ إشارة إلى قهر الشهوانية، وقوله :﴿وَلا فُسُوقَ﴾ إشارة إلى قهر القوة الغضبية التي توجب التمرد والغضب، وقوله :﴿وَلا جِدَالَ﴾ إشارة إلى القوة الوهمية التي تحمل الإنسان على الجدال في ذات الله، وصفاته، وأفعاله، وأحكامه، وأسمائه، وهي الباعثة للإنسان على منازعة الناس ومماراتهم، والمخاصمة معهم في كل شيء، فلما كان منشأ الشر محصوراً في هذه الأمور الثلاثة لا جرم قال :﴿فَلا رَفَثَ وَلا فُسُوقَ وَلا جِدَالَ فِي الْحَجِّ ﴾ أي فمن قصد معرفة الله ومحبته والاطلاع على نور جلاله، والانخراط في سلك الخواص من عباده، فلا يكون فيه هذه الأمور، وهذه أسرار نفسية هي المقصد الأقصى من هذه الآيات، فلا ينبغي أن يكون العاقل غافلاً عنها، ومن الله التوفيق في كل الأمور.
المسألة الرابعة : من الناس من عاب الإستدلال والبحث والنظر والجدال واحتج بوجوه أحدها : أنه تعالى قال :﴿وَلا جِدَالَ فِي الْحَجِّ ﴾ وهذا يقتضي نفي جميع أنواع الجدال، ولو كان الجدال في الدين طاعة وسبيلاً إلى معرفة الله تعالى لما نهى عنه في الحج، بل على ذلك التقدير كان الإشتغال بالجدال في الحج ضم طاعة إلى طاعة فكان أولى بالترغيب فيه وثانيها : قوله تعالى :﴿مَا ضَرَبُوهُ لَكَ إِلا جَدَا بَلْ هُمْ قَوْمٌ خَصِمُونَ﴾ (الزخرف : ٥٨) عابهم بكونهم من أهل الجدل، وذلك يدل على أن الجدل مذموم، وثالثها : قوله :﴿وَلا تَنَـازَعُوا فَتَفْشَلُوا وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ ﴾ (الأنفال : ٤٦) نهى عن المنازعة.
وأما جمهور المتكلمين فإنهم قالوا : الجدال في الدين طاعة عظيمة، واحتجوا عليه بقوله تعالى :﴿ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِا وَجَـادِلْهُم بِالَّتِى هِىَ أَحْسَنُ ﴾ (النحل : ١٢٥) وبقوله تعالى حكاية عن الكفار إنهم قالوا لنوح عليه السلام :﴿قَالُوا يَـانُوحُ قَدْ جَـادَلْتَنَا فَأَكْثَرْتَ جِدَالَنَا﴾ (هود : ٣٢) ومعلوم أنه ما كان ذلك الجدال إلا لتقرير أصول الدين.
جزء : ٥ رقم الصفحة : ٣١٤
إذا ثبت هذا فنقول : لا بد من التوفيق بين هذه النصوص، فنحمل الجدل المذموم على الجدل في تقرير الباطل، وطلب المال والجاه، والجدل الممدوح على الجدل في تقرير الحق ودعوة الخلق إلى سبيل الله، والذب عن دين الله تعالى.