أما قوله تعالى :﴿وَمَا تَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ يَعْلَمْهُ اللَّه وَتَزَوَّدُوا فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوَى ﴾ (البقرة : ١٩٧) فاعلم أن الله تعالى قبل هذه الآية أمر بفعل ما هو خير وطاعة، فقال :﴿وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلَّه ﴾ (البقرة : ١٩٦) وقال :﴿فَمَن فَرَضَ فِيهِنَّ الْحَجَّ﴾ ونهى عما هو شر ومعصية فقال :﴿فَلا رَفَثَ وَلا فُسُوقَ وَلا جِدَالَ فِي الْحَجِّ ﴾ ثم عقب الكل بقوله :﴿وَمَا تَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ يَعْلَمْهُ اللَّه ﴾ وقد كان الأولى في الظاهر أن يقال : وما تفعلوا من شيء يعلمه الله، حتى يتناول كل ما تقدم من الخير والشر، إلا أنه تعالى خص الخير بأنه يعلمه الله لفوائد ولطائف أحدها : إذا علمت منك الخير ذكرته وشهرته، وإذا علمت منك الشر سترته وأخفيته لتعلم أنه إذا كانت رحمتي بك في الدنيا هكذا، فكيف في العقبى وثانيها : أن من المفسرين من قال في تفسير قوله :﴿إِنَّ السَّاعَةَ ءَاتِيَةٌ أَكَادُ أُخْفِيهَا﴾ (طه : ١٥) معناه : لو أمكنني أن أخفيها عن نفسي لفعلت فكذا هذه الآية، كأنه قيل للعبد : ما تفعله من خير علمته، وأما الذي تفعله من الشر فلو أمكن أن أخفيه عن نفسي لفعلت ذلك وثالثها أن السلطان العظيم إذا قال لعبده المطيع : كل ما تتحمله من أنواع المشقة والخدمة في حقي فأنا عالم به ومطلع عليه، كان هذا وعداً له بالثواب العظيم، ولو قال ذلك لعبده المذنب المتمرد كان توعداً بالعقاب الشديد، ولما كان الحق سبحانه أكرم الأكرمين لا جرم ذكر ما يدل على الوعد بالثواب، ولم يذكر ما يدل على الوعيد بالعقاب ورابعها : أن جبريل عليه السلام لما قال : ما الإحسان ؟
فقال الرسول عليه الصلاة والسلام :"الإحسان أن تعبد الله كأنك تراه فإن لم تكن تراه فإنه يراك" فههنا بين للعبد أنه يراه ويعلم جميع ما يفعله من الخيرات لتكون طاعة العبد للرب من الإحسان الذي هو أعلى درجات العبادة، فإن الخادم متى علم أن مخدومه مطلع عليه ليس بغافل عن أحواله كان أحرص على العمل وأكثر التذاذاً به وأقل نفرة عنه وخامسها : أن الخادم إذا علم اطلاع المخدوم على جميع أحواله وما يفعله كان جده واجتهاده في أداء الطاعات وفي الاحتراز عن المحظورات أشد مما إذا لم يكن كذلك، فلهذه الوجوه أتبع تعالى الأمر بالحج والنهي عن الرفث والفسوق والجدال بقوله :﴿وَمَا تَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ يَعْلَمْهُ اللَّه ﴾.
جزء : ٥ رقم الصفحة : ٣١٤
أما قوله تعالى :﴿وَتَزَوَّدُوا فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوَى ﴾ ففيه قولان أحدهما : أن المراد : وتزودوا من التقوى، والدليل عليه قوله بعد ذلك :﴿فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوَى ﴾ وتحقيق الكلام فيه أن الإنسان له سفران : سفر في الدنيا وسفر من الدنيا، فالسفر في الدنيا لا بد له من زاد، وهو الطعام والشراب والمركب والمال، والسفر من الدنيا لا بد فيه أيضاً من زاد، وهو معرفة الله ومحبته والإعراض عما سواه، وهذا الزاد خير من الزاد الأول لوجوه الأول : أن زاد الدنيا يخلصك من عذاب موهوم وزاد الآخرة يخلصك من عذاب متيقن وثانيها : أن زاد الدنيا يخلصك من عذاب منقطع، وزاد الآخرة يخلصك من عذاب دائم وثالثها : أن زاد الدنيا يوصلك إلى لذة ممزوجة بالآلام والأسقام والبليات، وزاد الآخرة يوصلك إلى لذات باقية خالصة عن شوائب المضرة، آمنة من الانقطاع والزوال ورابعها : أن زاد الدنيا وهي كل ساعة في الإدبار والانقضاء، وزاد الآخرة يوصلك إلى الآخرة، وهي كل ساعة في الإقبال والقرب والوصول وخامسها : أن زاد الدنيا يوصلك إلى / منصة الشهوة والنفس، وزاد الآخرة يوصلك إلى عتبة الجلال والقدس، فثبت بمجموع ما ذكرنا أن خير الزاد التقوى.
إذا عرفت هذا فلنرجع إلى تفسير الآية، فكأنه تعالى قال : لما ثبت أن خير الزاد التقوى فاشتغلوا بتقواي يا أولي الألباب، يعني إن كنتم من أرباب الألباب الذين يعلمون حقائق الأمور وجب عليكم بحكم عقلكم ولبكم أن تشتغلوا بتحصيل هذا الزاد لما فيه كثرة المنافع، وقال الأعشى في تقرير هذا المعنى :
إذا أنت لم ترحل بزاد من التقى
ولا قيث بعد الموت من قد تزودا
ندمت على أن لا تكون كمثله
وأنك لم ترصد كما كان أرصدا


الصفحة التالية
Icon